أمريكا

انحدار أميركا يلوح في الأفق والتجديد أمر مشكوك به

ما الذي يمكن أن تفعله قوة عظمى تدرك أنها معرضة لخطر الانحدار حيال ذلك؟

سؤال يشغل الخبراء والساسة منذ سنوات: هل تستطيع أميركا أن تظل أعظم قوة في العالم، والأفضل في الدفاع عن مصالحها الخاصة وكذلك النظام العالمي؟ أم أن الولايات المتحدة تمر بالمراحل الأولى من الانحدار العام؟ كان مشهد الطائرة الهليكوبتر الرئاسية “مارين وان” وهي تحلق على ارتفاع منخفض باتجاه البيت الأبيض في الآونة الأخيرة تذكيراً مفيداً بأن الأمر كله يعتمد على وجهة نظرك.

قادم المروحية الرئاسية

“مارين وان” هي المروحية الشهيرة باللونين الأخضر والأبيض التي تنقل الرؤساء الأميركيين. قليل من الصور تظهر “قوة عظمى” بشكل أفضل من نزول الرئيس جو بايدن من مروحيته في الحديقة الجنوبية وسط تحية جندي من مشاة البحرية يرتدي ملابس زرقاء. ومع ذلك، فإن الراكبيْن في الآونة الأخيرة-بايدن وسلفه وخليفته المحتمل دونالد ترمب-يجعلان هذه القوة العظمى تبدو وكأنها صارت دولة شيخوخة. حتى أن تلك المروحيات باتت متقادمة، إذ تُستخدم منذ 1975. وتحاول “لوكهيد مارتن”، الشركة المصنعة لها، استبدالها بطائرات حديثة، ولكنها لا تزال تصطدم بعقبات؛ فقد أحرق نموذج جديد في الآونة الأخيرة عشب الحديقة الجنوبية في أثناء هبوطها، ليقتصر بعد ذلك هبوطها على المدارج الإسفلتية واستخدامها على موظفي الدعم.

قلت لنفسي إن القوى العظمى تشبه المروحيات، إذ يتعين على المشغلين الاعتراف عندما يطول عمرها، ثم يجرون عمليات التحديث اللازمة. ومن الواضح أن هذا هو أيضاً الاستنتاج الذي توصل إليه مكتب التقييم الصافي، وهو بمثابة مركز أبحاث داخلي بوزارة الدفاع (البنتاغون). وللتعرف على مسار الطيران المستقبلي لأميركا، قام المكتب برعاية سلسلة تقارير من إعداد مؤسسة راند البحثية في كاليفورنيا. بحث المعدون-مايكل مزار، وتيم سويجس، ودانيال تابيا-في جميع السوابق التاريخية ذات الصلة بالانحدار الوطني، بالإضافة إلى النظريات المتعلقة بالأسباب والحلول.

جمود بيروقراطي وتعقيد داخلي

تمتد دراسات الحالة عبر قرون، من روما القديمة والصين في عهد أسرة سونغ الحاكمة إلى دول المدن في عصر النهضة في إيطاليا، ومن هولندا والسويد في القرن السابع عشر إلى القوتين الاستعماريتين إسبانيا وفرنسا، ومن الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية المجرية إلى الاتحاد السوفيتي. كلها كانت ذات قوة وبأس، وكلها ​​سقطت في آخر الأمر.

وكانت أسباب اضمحلالها متنوعة، ولكن بعضها يتكرر. فأحد الأنماط الشائعة في القوى الشائخة هو الجمود البيروقراطي وتفشي التعقيد الداخلي. وتؤدي هذه الاتجاهات إلى إجهاد المؤسسات، التي تميل النخب بعد ذلك إلى استغلالها في تنافسها مع فصائل من النخب نفسها، في حين تتجاهل الصالح العام لمجتمعها. ويمكن أن نطلق على هذا المرض مزيجاً ساماً من التعقيد والاستقطاب.

ومن المؤكد أن هذا التشخيص يتوافق مع الحالة التي تعيشها أميركا اليوم. والسؤال التالي يصبح بعد ذلك: ما الذي يمكن أن تفعله قوة عظمى تدرك أنها معرضة لخطر الانحدار حيال ذلك؟ فهل تتمكن الولايات المتحدة من تحديد مشكلاتها، وإيجاد حلول عقلانية، وتغيير المسار، في سعيها إلى تحقيق التفوق المتجدد؟ إجابة مؤسسة راند المحبطة هي أن مثل هذه الانتكاسات-من قوة عظمى إلى متوسطة أو ثانوية ثم العودة مرة أخرى إلى السيادة والتفوق- “يصعب اكتشافها في سجل التاريخ”.

فقد حاولت قوى عدة تحقيق ذلك لكن دون جدوى، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات. أما بلدان أخرى، مثل اليابان ما بعد الحرب وألمانيا الغربية، فلم تجدد نفسها بقدر ما أعادها الغزاة (الولايات المتحدة بشكل خاص)، وهو ما يجعلها غير مناسبة كنموذجين للقياس. أما السابقة الأكثر تشابهاً مع الولايات المتحدة اليوم، والأكثر تشجيعاً أيضاً، فهي بريطانيا في العصر الفيكتوري.

الإصلاح يعيد لبريطانيا مجدها

على الرغم من خسارة المستعمرات الأميركية، أبلى البريطانيون بلاءً حسناً طوال الثورة الصناعية الأولى والحروب النابليونية. ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، واجهت المملكة المتحدة مجموعةً واسعةً من المشكلات. وكانت السلطة لا تزال مركزةً في أيدي نخبة صغيرة من الذكور من ملاك الأراضي، في حين تكدست الطبقات العاملة الجديدة في مدن قذرة تعاني من الجوع ويعصف بها تفشي وباء الكوليرا الذي ما يلبث أن يختفي حتى يظهر من جديد. وكان الأطفال يعملون في مصانع النسيج والمناجم، ولم يكن للنساء حقوق تذكر. وبدا من غير المرجح أن تتمكن هذه الأمة التي صورها الروائي الشهير تشارلز ديكينز في رواياته وما كانت عليه من البؤس والفقر، حتى في ظل إمبراطوريتها الضخمة، من الصمود خلال الثورة الصناعية الثانية الناشئة، وفي مواجهة منافسين جدد وصاعدين مثل ألمانيا والولايات المتحدة.

لمواجهة ذلك كله، دشنت بريطانيا عدة جولات من الإصلاح، ليس جزءاً من خطة متماسكة، وإنما سلسلة من حلول عملية أضيفت إلى عقد اجتماعي جديد. ومثلما لاحظ زميلي أدريان وولدريدج، فإن إلغاء قوانين الذرة في عام 1846 أدى إلى انخفاض أسعار الغذاء بالنسبة للفقراء وتحرير التجارة، كما تم توسيع حق الاقتراع ليشمل المزيد من الرجال، وفي النهاية للنساء، وتسنى تحسين ظروف العمل، والقضاء تدريجياً على عمالة الأطفال، وأصبحت الرعاية الطبية والتعليم أفضل.

والفارق بين بريطانيا في العصر الفيكتوري وغيرها من القوى المتدهورة هو على ما يبدو أن النخب، على الرغم من قدرتها التنافسية، ما زالت تجد أرضية مشتركة كافية للاتفاق على الإصلاحات. وربما كان جزءاً من دوافعها هو تجنب اضطرابات أكثر حدةً مثل الثورة الفرنسية، التي لا تزال حاضرة في ذاكرتهم. تسمي مؤسسة راند هذا الإنجاز الفيكتوري الجماعي بـ”التجديد الاستباقي”. وقد مكن ذلك بريطانيا من البقاء متماسكةً وحيويةً بما يكفي لتبقى قوةً كبرى في القرن العشرين. لم يحل ذلك دون التراجع، وإنما أخره على نحو ملحوظ.

هل تتحد النخبة الأميركية؟

بوسع الولايات المتحدة اليوم أن تحقق إنجازاً مماثلاً شريطة اتحاد نخبتها السياسية مثلما فعل الفيكتوريون وتساميهم عن خلافاتهم. ومن الناحية الديموغرافية، تواجه أميركا مشكلات أقل من تلك التي يواجهها منافسون واضحون مثل الصين وروسيا، في ظل عدد أكبر نسبياً من المواليد والهجرة الصافية. وتظل الشركات والمبتكرون والمستثمرون الأميركيون من بين الأفضل في العالم. وإذا كان السباق خلال الثورة الصناعية الثانية مرتبطاً بالتلغراف والكهرباء والسكك الحديدية، فإن سباق اليوم قد يُحسم في مجالي الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، حيث تتمتع الولايات المتحدة بفرصة جيدة للريادة.

المشكلة هي تلك الفرضية المسبقة بشأن إيجاد النخب السياسية أرضيةً مشتركةً للإصلاح. لا أرى فرصة كبيرة لتحقيق ذلك، ليس فقط لأننا في عام انتخابي مما يجعل الانتقادات اللاذعة أسوأ. فصناع القرار في أميركا منقسمون، حتى أن الولايات المتحدة، على حد تعبير راند، “ليس لديها حتى الآن اعتراف مشترك بالمشكلة: فرغم أن تحديات تولد إحباطاً واسع النطاق، فلا يوجد إجماع ناشئ على عوائق التجديد والتحديث والتي تتطلب تحركاً عاجلاً”.

خلاصة القول: لا يمكننا حتى الاتفاق على ما يجب إصلاحه، ناهيك عن كيفية إصلاحه. الخبر السار الوحيد، إذا نظرت إلى القوة الجيوسياسية على أنها نسبية ومحصلتها صفر، هو أن منافسي أميركا لديهم مشكلات تبدو على الأقل مستعصية على الحل، وهذا ينطبق على خصوم مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، وكذلك على قوى متوسطة صاعدة مثل الهند، وتركيا والبرازيل وإندونيسيا.

وقد حكم وجود التعقيدات الداخلية والخلاف في القمة بالفشل على العديد من عمليات إعادة تنظيم الشركات، وإعادة تشغيل الأنظمة، وتجديد شباب الوطن. وهذا سبب إضافي يدفع واشنطن إلى حل هذه المشكلة، سواء من أجل أميركا أو من أجل العالم. فالحصول على مروحيات جديدة لا تحرق عشب حديقة البيت الأبيض سيكون مجرد بداية.

نقلا عن بلومبرغ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى