تركيا

تركيا أردوغان المتجدد أكثر نفعا للمنطقة

مع المصالحة الخليجية في قمة العلا في السعودية، ومع الضغوط الاقتصادية الكبيرة على تركيا، انتبه أردوغان إلى أن المغامرة تقترب من نهايتها وأن من الأسلم تقليل الخسائر

رغم كل ما تحمله حرب غزة من مآسٍ وتداعيات إقليمية وتطورات محتملة، فقد جاءت في توقيت مناسب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. المغامرة التركية الكبرى لاستعادة الوهج الإمبراطوري العثماني التي أطلقها أردوغان قبل حوالي ربع قرن، وصلت إلى خاتمتها المنطقية. وقفت تركيا أمام الأحداث التي أعقبت “طوفان الأقصى” متفرجة بلا تدخل يذكر، إلا ما ارتبط بتصريحات الإدانة لما أقدمت عليه إسرائيل من حرب انتقامية من كل شيء فلسطيني وأدت إلى دمار غزة ومقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين وإصابة وتهجير مئات الآلاف منهم. مثَلُ تركيا في لهجة الإدانة كمثَل الكثير من دول العالم، بل إن دولا أخرى تجاوزت الموقف التركي بأشواط وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. بعد أشهر طويلة من الحرب والدمار، أعلنت تركيا عن مقاطعة تجارية جزئية تحولت إلى توقف في التعامل التجاري. كل التنسيق السياسي والعسكري بين تركيا وإسرائيل بقي على حاله.

من باب القضية الفلسطينية دخل أردوغان المنطقة. لا حاجة للإشارة إلى دور النظام السوري في إعادة تأهيل تركيا وتبييض سمعتها في المنطقة. في لحظة وهم كبرى، اقتنع البعثي العلماني بشار الأسد بأن منظومة الإسلام السياسي في المنطقة هي ما يمكن الاعتماد عليه. لعب القطريون دورا كبيرا في كل هذا، وصار حلفاء الأسد هم حماس (وبقية الإخوان بمن فيهم إخوان سوريا على لسان مرشدهم صدرالدين البيانوني)، وحزب الله ومعه إيران، والمشروع العثماني الصاعد في تركيا، بمرجعيته الإخوانية الأردوغانية.

بالتصفيق والاهتمام والحفاوة التي صاحبت صعود مكانة أردوغان في المنطقة، انفتحت شهية “السلطان” الجديد. وما بين الوضع في العراق بعد الاحتلال الأميركي، والمفاضلة الإقليمية بين تركيا وإيران، وانقلاب المنطقة إلى ساحة صراع إقليمي واسع بعد الربيع العربي، كان الحضور التركي في تزايد. وعبثا ذهبت محاولة الاسترضاء الإقليمية، وخصوصا من دول الخليج، بالعقود والاستثمارات لتغيير موقف أردوغان. ومع تصدي التحالف العربي للمشروع الإخواني وتسديد الضربة القاضية له في مصر، صار الصراع بين محور الاعتدال العربي والمشروع التركي – القطري – الإخواني من مفردات السياسة اليومية في المنطقة. بل إن أردوغان اختار التوسع في أفق الصراع وصولا إلى عدم الاكتفاء بالتدخل العسكري في سوريا والعراق، والذهاب بعيدا في المواجهة لتصبح تركيا طرفا في الصراع المشتعل في ليبيا، وأن تتمكن من هزيمة المبادرة العسكرية التي كان المشير خليفة حفتر يقودها لتوحيد شرق ليبيا مع غربها. لك أن تختار مسمى ما حدث في ليبيا إن كان الذهاب إلى هناك لنصرة المشروع الإخواني الليبي أم لمحاصرة مصر من الغرب.

ذهب أردوغان بعيدا في عداوته للإمارات والسعودية، واستفاد من جريمة قتْل الصحافي جمال خاشقجي للتشهير بالسعودية وقيادتها. ومن طرافة الموقف المعادي للسعودية أنه بالغ كثيرا في لوم الرياض على محاولتها اختطاف خاشقجي أو قتله، في الوقت الذي كانت فيه المخابرات التركية تقوم بأوسع عمليات اختطاف وتصفية للمعارضين في تاريخ البلاد. أرسل السعوديون طائرتين لاختطاف خاشقجي، وإعادته إلى بلده حيا أو ميتا، في حين كانت مئات الطائرات التركية الخاصة تتحرك في آسيا وأوروبا وأفريقيا لتعيد معارضين أتراكًا من أنصار حليف أردوغان السابق فتح الله غولن، وينشط عملاء المخابرات التركية بشمال العراق وسوريا في تنفيذ عمليات تصفية لزعماء بارزين من الأكراد.

لكن عوامل كثيرة كانت ضد مغامرة أردوغان الكبرى. لعل وجها من أوجه المغامرة كان القصور في فهم عوامل الاقتصاد والاقتراض واللعب بأسعار الفائدة واختراع نظريات اقتصادية جديدة تضع على الرف منطق جون ميراندكينز في قدرة الدولة على تنظيم الاقتصاد والتحكم في أسعار الفائدة. وكما كان التمدد السياسي لأردوغان قائما على فكرة مرتجلة عن إعادة الإمبراطورية العثمانية تحت مسميات إخوانية ومصلحية، ترك الرئيس التركي الملف الاقتصادي بيد نسيبه الغشيم بيرات البيرق الذي أوصل ارتجاله البلاد إلى حافة الإفلاس.

تركيا، البلد العظيم في التاريخ، كانت ترسل إلى رئيسها إشارات متعاقبة. كان من المؤلم أن يرى العالم تجربة اقتصادية كبيرة وناجحة يطاح بها لأسباب أيديولوجية أو ركضا وراء أوهام. فهم أردوغان القرب الشعبي العربي والتقدير للمواقف التركية كفرصة لاستعادة الدور الإمبراطوري. لا شك أن لتركيا مكانة كبيرة في المنطقة. لا وجه لمقارنة الحضور التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بندّه الإيراني. حتى نفسيا الأتراك في وضع مختلف، إذ يتصرفون بمنطق استعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، بينما لا يمكن تفسير منطق إيران في المنطقة إلا من باب الانتقام لهزيمة تاريخية يوم تم الفتح الإسلامي ونهاية الإمبراطورية الكسروية. من الوارد بالطبع تفسير التمايز بالأهمية بين تركيا السنية وإيران الشيعية. لكن ما حدث أن تركيا على يد أردوغان صارت تتصرف بما يشابه السلوك الإيراني، بفارق الأدوات، بين إخوان وميليشيات، وحماس وحزب الله.

مع المصالحة الخليجية في قمة العلا في السعودية، ومع الضغوط الاقتصادية الكبيرة على تركيا، انتبه أردوغان إلى أن المغامرة تقترب من نهايتها وأن من الأسلم تقليل الخسائر. وأي مراقب منصف سيستنتج أن سياسة اليد الممدودة من الإمارات أولا ثم من بعدها السعودية، كان لها الأثر الأكبر في إصلاح ذات البين بين الإقليم وتركيا. استُقبل أردوغان في المنطقة بمنطق عفا الله عما سلف.

خلال الأشهر الماضية بدأت الاستثمارات الإماراتية والسعودية بالتدفق على تركيا. العالم التقط إشارات “أردوغان المتجدد” وفسرها لصالحه. عاد الاقتصاد التركي إلى احترام أبجديات الاقتصاد العالمي، وكانت الاستثمارات الخليجية والعالمية شهادات ثقة وتأييد لحسن سيرة تركيا وسلوكها. قبل أيام مثلا صدرت تقييمات من مصرف سيتي تشير إلى تدفقات استثمارية كبيرة إلى تركيا يمكن أن تساعد الاقتصاد التركي في العودة إلى الطريق الصحيح. مثل هذه التقييمات ما كانت لتحدث لولا أن مصرف سيتي يفهم معنى أن يتقدم أكبر مصرف في المنطقة، بنك أبوظبي الأول، ليعرض ما يقارب 8 مليارات دولار لشراء أسهم الأغلبية في بنك يابي كريدي التركي. القطيعة التي أبعدت المستثمرين الأجانب عن تركيا لعشرة أعوام على وشك أن تنتهي.

الآن، ما علاقة غزة بالوضع الاقتصادي في تركيا؟ أردوغان “القديم” ما كان ليضيع فرصة مثل أزمة الحرب الكارثية في غزة من دون استفادة سياسية قصوى، سواء بمحاولة التدخل أو بتوجيه كل أنواع اللوم إلى الدول العربية الأخرى لامتناعها عن التدخل المباشر في الأزمة. كان سيستعيد روح المغامرة السابقة حين كان يريد “كسر” الحصار على غزة عام 2010 بما سمي آنذاك بـ“أسطول الحرية” وسفينة “مافي مرمرة”. أين الحصار الإسرائيلي لغزة عام 2010 مما يحدث اليوم؟ ينظر الفلسطينيون في غزة فلا يرون “مافي مرمرة” ولا أيّ سفينة من “أسطول الحرية”. كل ما يرونه هو رصيف أميركي ينتظرون منه الغوث. ذهب زمن المبالغات الأردوغانية، ربما إلى غير رجعة. أردوغان الذي يتصرف بكل هذا الهدوء مع ملف كان هوايته اليومية، هو أردوغان مختلف.

تركيا القوية اقتصاديا والهادئة سياسيا والمنسجمة إقليميا هي ما تحتاجه المنطقة أمام عنجهية إيرانية وجريمة إسرائيلية ولا مبالاة غربية. بوجود تركيا عقلانية، يمكن للمنطقة أن تعمل وتنسق وتستثمر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى