أخطار غياب السلطة الحاكمة في غزة
من الضروري جداً تحديد الجهة التي ستحكم غزة في "اليوم الفاصل" كي لا تتحول إلى مقديشو البحر الأبيض المتوسط
في أوائل أبريل (نيسان)، في الشهر السابع من الحملة التي تشنها إسرائيل لتفكيك “حماس”، سحبت قوات الدفاع الإسرائيلية أغلبية قواتها البرية من قطاع غزة، ولم تترك سوى لواء واحد فحسب في الجزء الأوسط منه. وشمل ذلك انسحاب القوات الإسرائيلية من خان يونس، المنطقة المترامية الأطراف في جنوب غزة، التي يعتقد مسؤولو الاستخبارات الأميركية أن زعيم “حماس” يحيى السنوار يختبئ تحتها في شبكة أنفاق واسعة. وعندما قدموا تفسيراً يبرر قرار سحب هؤلاء الجنود، أشار المسؤولون الإسرائيليون إلى نجاح حملتهم العسكرية في تدمير 18 من أصل 24 كتيبة تابعة لـ”حماس”.
إضافة إلى ذلك، احتاجت القوات الإسرائيلية إلى وقت للراحة قبل العودة لرفح في أقصى جنوب غزة لتفكيك كتائب “حماس” الأربع المتمركزة هناك. ولأسابيع عدة، ما عادت الغارات الجوية المستمرة ومناورات القوات البرية تهيمن على الحياة اليومية في غزة، لكن المنظمات الإنسانية والمدنيين على حد سواء لا يعرفون أين يبحثون عن المتطلبات الأمنية الأساسية، إذ لا سلطة حاكمة تدير غزة.
ولهذا السبب يشير بعض مسؤولي الأمم المتحدة الآن إلى غزة باسم “مقديشو البحر الأبيض المتوسط”. في بعض المناطق، تتولى بقايا الوزارات التي تديرها “حماس” تقديم الخدمات أو تحويل المساعدات الإنسانية، بينما في أخرى، تنهب الشبكات الإجرامية تلك المساعدات ثم تعيد توزيعها. وفي بعض الأماكن، تتعاقد المجتمعات المحلية والمنظمات الإنسانية مع جماعات مسلحة أخرى غير “حماس” لتوفير الأمن. لقد أصبحت غزة عبارة عن مساحة غير خاضعة للحكم، إذ تتجذر هياكل السلطة الموازية والمتنافسة. وبدأت الظروف المؤدية إلى زعزعة الاستقرار على المدى الطويل تظهر بالفعل.
وفي الشهر نفسه، ومع انتشار الفوضى العامة في جميع أنحاء القطاع، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن الشركات الاستشارية ووكالات التنمية والمؤسسات المالية بدأت جهود تخطيط موسعة ترمي إلى إعادة إعمار غزة. عقدت محادثات في لندن في ديسمبر (كانون الأول) 2023، جمعت خبراء تنمية وممثلين عن القطاع الخاص وممولين دوليين لرسم مستقبل بديل لغزة. وبموجب هذه الخطة، سيكون لغزة ميناء في المياه العميقة، وعملة خاصة بها، وملعب لكرة القدم، لكنهم لم يناقشوا أياً من القضايا الأساسية، بما في ذلك ضمان عدم اضطلاع “حماس” بأي دور في هذا الاقتصاد الجديد، وإنشاء إطار سياسي للحكم، وتحديد علاقة غزة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه، ترفض إسرائيل التخطيط لما سيحدث بعد انسحاب قواتها من غزة.
إن ندرة الحلول الواقعية “لليوم التالي” في غزة تسلط الضوء على أمر أكثر إثارة للقلق يتمثل في غياب التخطيط.
في الواقع، يركز المراقبون على الإطار الزمني الخاطئ، فاليوم الأكثر أهمية الذي يجب أن ينصب تركيزهم عليه هو “مرحلة الما بين” [التي تسبق انتهاء الحرب]، أي الفترة التي سيكون من الضروري فيها تقديم دعم وخدمات مدنية تتجاوز المساعدات الإنسانية الطارئة، حتى مع استمرار عمليات الجيش الإسرائيلي العسكرية. هذا الدعم، الذي سيتطلب عزيمة سياسية إسرائيلية من أجل التخطيط وإعطاء الأولوية لشؤون الفلسطينيين، إلى جانب الخبرة والتمويل الدوليين، سيكون حاسماً لمنع أية فرص ضائعة خلال “مرحلة الما بين”.
التخطيط للمستقبل
عندما يتحدث المسؤولون والمعلقون عن “اليوم التالي”، فإنهم يشيرون إلى الفترة التي تلي إنهاء إسرائيل عملياتها العسكرية النشطة الرامية إلى تفكيك البنية التحتية العسكرية لـ”حماس”. في سيناريو “اليوم التالي” هذا، من المتوقع أن يكون جيش الدفاع الإسرائيلي نجح بشكل فعال في إسقاط “حماس” ككيان منظم، مما يجعل من المتعذر على الحركة حكم قطاع غزة. ومن المتوقع أيضاً أن يكون هناك اتفاق يحظى بالقبول في العواصم العربية وإسرائيل والولايات المتحدة والهيئات الدولية، لإنشاء قوة أمنية على الأرض، وإطار حكم جديد لا يشمل “حماس”، وخطة لتعزيز توفير المساعدات الإنسانية وتوزيعها، والتمويل من أجل تحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.
تتطلب مثل هذه الخطة الطموحة لغزة ما بعد الحرب تخطيطاً وتسلسلاً مفصلاً، وتنسيقاً مدنياً عسكرياً، ودعماً دولياً كان ينبغي أن يبدأ بالتزامن مع حملة جيش الدفاع الإسرائيلي على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجنب عمداً هذا النوع من التخطيط، إذ اعتبره تنازلاً يخفف من الضغط على “حماس”، بيد أن ذلك ليس من المفترض أن يمنع إسرائيل من الاستعداد “لمرحلة الما بين”، أو ما تشير إليه منظمات مثل راند بـ”الفترة الذهبية” [أو الساعة الذهبية]، وهي فترة الأسابيع والأشهر التي تلي توقف العمليات العسكرية النشطة مباشرة، وتسبق بدء عملية إعادة الإعمار الطويلة الأمد. يعتبر هذا الإطار الزمني القصير حاسماً لأنه يحدد ما إذا كان التعافي بعد الصراع سيتبع مساراً إيجابياً أم سلبياً.
والتاريخ الحديث حافل بأمثلة على الفشل في التخطيط لهذه الفترة، مما أتاح للجهات الفاعلة السيئة اغتنام الفرص مباشرة، وتسريع عمليات التمرد، وتمكين الإرهاب، وتأجيج دوامات إضافية من العنف. وفي الواقع، يدرك المسؤولون الأميركيون مدى صعوبة تحقيق الاستقرار بشكل فعال في مجتمع ما بعد انتهاء الصراع، ومنع التمرد. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، عرضت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان مراراً وتكراراً مشاركة الدروس المستفادة والممارسات الفضلى مع نظيرتيهما الإسرائيليتين، بيد أن إسرائيل رفضت التعلم من هذه المعرفة والخبرة الواسعة المكتسبة في شأن ترتيب الأنشطة وفق تسلسل يمنع حدوث النتائج الأسوأ في المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع، لا بل يبدو حتى أنها على وشك تكرار الأخطاء نفسها.
خبرات غير مستغلة
ونظراً إلى مجموعة البحوث الواسعة والمتاحة بسهولة التي تركز على التعلم من أوجه القصور السابقة في التخطيط لأنشطة ما بعد الصراع، فمن المثير للدهشة أن المناقشات حول غزة ما بعد “حماس” تفتقر بشكل ملحوظ إلى العمق والتطوير. لقد وفرت تجارب الولايات المتحدة والأمم المتحدة في الصومال عام 1992، وهايتي عام 1994، والبوسنة عام 1995، وكوسوفو عام 1999، وأفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، خبرات ومعلومات قيمة للمنظمات الدولية، والجماعات غير الحكومية، والحكومة الأميركية. وخصصت هذه المنظمات والهيئات وقتاً وموارد كبيرة لإعادة هيكلة جهود التخطيط وتدريب الموظفين وتوثيق القرارات المتخذة أو غير المتخذة، التي أدت إلى نتائج غير ناجحة عند السعي إلى تحقيق الاستقرار وإعادة بناء المجتمعات بعد الصراعات الدموية.
ففي ذروة حربي العراق وأفغانستان، على سبيل المثال، عندما فشلت القوات المسلحة الأميركية في التخطيط لحركات التمرد المسلحة والفراغ في الحكم، ركزت الهيئات الممولة من الحكومة الأميركية على ضمان الاستفادة من الدروس. منذ عام 2005 أنشأ معهد الولايات المتحدة للسلام (USIP) فريقاً من الخبراء المدنيين والعسكريين في الأزمات الإنسانية وجهود الإغاثة والإنعاش. وجادل هذا الفريق بشكل مقنع بأن الأفراد العسكريين النظاميين هم محاربون، وليسوا بناة سلام، على رغم أنهم كثيراً ما يجدون أنفسهم مسؤولين عن أنشطة ما بعد الحرب قبل وصول العمال المدنيين إلى الأرض. والمشكلة هي أن هؤلاء المدنيين لا يشكلون جزءاً من عملية التخطيط القتالي، مما يجبرهم على محاولة إدخال أنفسهم في تسلسل القيادة العسكرية لإدارة أنشطة غير عسكرية بطبيعتها. وفي عام 2009، أصدر معهد الولايات المتحدة للسلام دليلاً [كتيباً] بعنوان “المبادئ التوجيهية لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار”. يجادل هذا الدليل بأن المدنيين يفتقرون إلى العقيدة والخرائط التي تخولهم العمل في السياق الفريد الذي تتمتع به بيئات ما بعد الصراع جنباً إلى جنب مع قوات الخدمة الفعلية. وفي عام 2011، افتتح المعهد أكاديمية إدارة النزاعات الدولية وبناء السلام لتقديم التدريب المستمر لموظفي الحكومة الأميركية، حتى لا تتكرر إخفاقات الماضي.
من الضروري تقديم الدعم والخدمات المدنية بما يتجاوز المساعدات الإنسانية الطارئة، حتى مع استمرار عمليات الجيش الإسرائيلي العسكرية.
في عام 2004، أدركت وزارة الخارجية الأميركية أن موظفيها يفتقرون إلى المعرفة والمهارات اللازمة لإدارة الدبلوماسية والتنمية والتنسيق العسكري بشكل فعال في حالات ما بعد الصراع، وأنشأت كياناً جديداً يسمى “مكتب منسق قضايا إعادة الإعمار ودعم الاستقرار”، أو “سي أر أس” CRS. وفي العام التالي، نشر “سي أر أس” قائمة تضم أكثر من 100 مهمة أساسية لإعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع، بما في ذلك إنهاء الأعمال العدائية ونزع السلاح والشرطة الموقتة وإزالة الذخائر غير المنفجرة، فضلاً عن إنشاء حكم انتقالي وتعيين موظفي الخدمة المدنية ومنع المجاعة. في عام 2011، تحول مكتب “سي أر أس” إلى دائرة، يترأسها اليوم سكرتير مساعد معتمد من مجلس الشيوخ. وتحتوي دائرة “سي أر أس” على الموظفين والخبرة اللازمة للدخول في شراكة مع الحكومة الإسرائيلية ودعم عملية التخطيط التي تعالج بشكل فعال الاحتياجات المباشرة في مرحلة ما بعد الحرب في غزة. ويمكن للدائرة أيضاً الاستفادة من علاقاتها الدولية من أجل دعم التخطيط لمرحلة ما بعد “حماس” في غزة.
في عام 2018، أصدر وزير الخارجية الأميركي ووزير الدفاع ومدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بشكل مشترك “مراجعة المساعدة في تحقيق الاستقرار” لتبسيط [ترشيد] جهود الحكومة الأميركية في المناطق المتضررة من الصراع. وأشارت هذه المراجعة إلى أن أكثر من نصف الصراعات التي “تحقق السلام” تعود مجدداً للعنف، وحذرت من أنه من المستبعد أن تنجح جهود التنمية على المدى الطويل في غياب الاستقرار السياسي. إضافة إلى ذلك، دعت المراجعة خبراء تحقيق الاستقرار المدنيين إلى التنسيق مع نظرائهم العسكريين من خلال “آليات مؤسسية”، وشددت على أن “تحقيق الاستقرار هو مسعى سياسي بطبيعته يتطلب مواءمة جهود الحكومة الأميركية، على غرار المشاركة الدبلوماسية والمساعدة الأجنبية والدفاع، ودفعها في اتجاه دعم السلطات الشرعية المحلية وأنظمة إدارة الصراعات سلمياً ومنع العنف”. واستطراداً، أوصت بدمج خطط تحقيق الاستقرار مع الخطط العسكرية منذ البداية، وحذرت من أن عمليات مكافحة الإرهاب يمكن أن يكون لها تأثير مزعزع للاستقرار. إن الاستنتاجات والتوصيات والتحذيرات الواردة في مراجعة عام 2018 هي مثال آخر على الخبرة المتاحة بسهولة التي يبدو أن إسرائيل تتجاهلها عمداً في حالة غزة.
اغتنام الفرصة
الفترة الذهبية هي الفترة الحاسمة غير المدرجة في عملية التخطيط لغزة. خلال هذه الفترة، سيصاب الموجودون على الأرض بالصدمة وسينهار العقد الاجتماعي. قد تكون المساعدات الإنسانية متاحة، لكن لا أحد من سكان غزة سيقبل بسهولة أن يمضي حياته منتظراً في طوابير للحصول على المساعدات من الأجانب. وسيسعى المدنيون إلى فهم الخطة ومعرفة من سيكون المسؤول عن تنفيذها. وسيرغبون في معرفة ما إذا كان بإمكانهم العودة لديارهم وما الذي سيتبقى لهم هناك للعودة له، وسيحتاجون إلى معلومات عن درجة الأمان التي سيتمتعون بها وعن السلطة التي ستنظم الخدمات الأساسية وتستجيب لاحتياجاتهم وهم يحاولون إعادة بناء حياتهم. ومن دون ضمان وجود خطة، ستتدخل الجماعات المسلحة والقوى الأجنبية وتنشئ هياكل موازية تهيئ الظروف لمزيد من عدم الاستقرار، وهذه هي الفرصة التي تنتظر “حماس” وإيران وغيرهما استغلالها بكل انتهازية.
تشير دراسة أجرتها مؤسسة راند عام 2020، بعنوان “اغتنام الفترة الذهبية”، إلى أنه خلال هذه الفترة الوجيزة، “تتكون الانطباعات الأولية وتتشكل التوقعات، وتبدأ مواءمة الدعم والمقاومة المحليين”. ويحدد التقرير الديناميكيات التي تؤثر في مسار فترة ما بعد الصراع. ويسلط الضوء على حاجة الولايات المتحدة وشركائها إلى تقديم تطمينات تضمن حماية كافية لنظام سياسي جديد، فضلاً عن الدعم السياسي والمالي الطويل الأجل. واستكمالاً يجب استيعاب القوات المسلحة المتبقية من نظام ما قبل الحرب أو تعطيلها قبل أن تتاح لها الفرصة لإنشاء شبكات بديلة أو غير مشروعة. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو الاستنتاج الذي توصلت إليه مؤسسة راند بأن كل تدخل قادته الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، تطلب قوة أكبر على الأرض لتحقيق استقرار الوضع مقارنة بما استخدم لخوض الحرب نفسها. إذا لم يوجد الجيش الإسرائيلي على الأرض بأعداد كبيرة، ولم يكن هناك إجماع على قوة أمنية بعد الحرب، فستضيع هذه الفترة الذهبية.
في الواقع، إن إسرائيل تخاطر بالفعل بعدم التخطيط للفترة الذهبية. لقد سحب جيش الدفاع الإسرائيلي معظم قواته من شمال غزة في يناير (كانون الثاني) مع تقدمه جنوباً، معلناً تفكيك كتائب “حماس” في الشمال. ومع انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من شمال غزة، أعلنت المديرة التنفيذية في برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة سيندي ماكين، أن هذه المنطقة كانت بالفعل تعاني “مجاعة شاملة”. وبعد ذلك، في شهر مايو (أيار)، عاد جيش الدفاع الإسرائيلي بأعداد كبيرة لمدينة غزة ومخيم جباليا للاجئين، وهي مناطق أعلنت سابقاً خالية من “حماس”، بهدف التصدي لتجدد النشاط الإرهابي. من دون وجود أمني ذي صدقية وخطة لتوفير احتياجات السكان المدنيين في شمال غزة، فإن “حماس” وآخرين سيعودون باستمرار، لملء الفراغ في الحكم والفجوات الأمنية.
إرسال صانعي السلام
لقد تعلمت الولايات المتحدة بشكل مؤلم أنه من دون اتباع نهج يركز على المدنيين لتحقيق الاستقرار في منطقة معينة خلال مرحلة ما بعد الحرب، فإن أي إنجاز عسكري سيكون زائلاً. والحملة الإسرائيلية في غزة لا تخاطر في إهدار الفرص خلال الفترة الذهبية فحسب، بل أيضاً في تفويت فرصة تهيئة الظروف المناسبة لعملية التعافي في غزة ما بعد الحرب وهي عملية ستكون حيوية بالنسبة إلى أمن إسرائيل. وهذه كلها أخطاء كانت ارتكبتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرهما في أماكن أخرى. إن تجاهل أهمية التجربة التاريخية عندما يتعلق الأمر بالتخطيط وصنع القرار في شأن غزة ما بعد “حماس” هو قرار سياسي.
لقلب هذا المسار في غزة، ينبغي إعطاء المبادرات ذات التوجه المدني المستوى نفسه من الأهمية الذي تحظى به الجهود العسكرية. والأمر الأكثر إلحاحاً هو أن تطرح إسرائيل اقتراحاً لإنفاذ القانون يكون مقبولاً ويلبي الحد الأدنى من الشروط اللازمة لتقديم الخدمات للمدنيين الفلسطينيين وتوفير بديل لـ”حماس”. يتمتع هذا الاقتراح بأفضل فرصة للنجاح إذا حظي باعتراف دولي ودعم من الولايات المتحدة والعواصم العربية، بما في ذلك أبو ظبي وعمان والقاهرة والرياض. ثانياً إن الجهات المعنية الخارجية المصممة على منع “حماس” من العودة، بما في ذلك إسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة، تحتاج إلى شريك على الأرض يتمتع بشرعية كافية في نظر المدنيين لتوزيع المساعدات والبدء بتنفيذ الأنشطة الأساسية الأخرى، بما في ذلك إزالة الأنقاض والتخلص من الذخائر المتفجرة. ومن الممكن القيام بذلك بموجب التفويض الدولي نفسه، بدعم إسرائيلي وأميركي وإقليمي ودولي. وأخيراً يتعين على الائتلاف الحاكم في إسرائيل تعيين قادة مدنيين داخل الحكومة لتولي أدوار صنع القرارات الأساسية في غزة بعد النزاع، وإعفاء الجيش الإسرائيلي من هذه المسؤوليات. وبعد ذلك يجب أن يبدأ التخطيط الحقيقي الذي يشمل القطاعين المدني والعسكري.
إن الحملة التي تشنها إسرائيل ضد “حماس” لا تتمحور سوى حول الأهداف [والمعايير] العسكرية، وأهمها هو تفكيك هيكل القيادة والسيطرة الخاص بالمنظمة الإرهابية. وينبغي تحقيق ذلك من خلال استهداف مقاتلي “حماس”، والقضاء على البنية التحتية لأنفاقها الإرهابية، والتخلص من كبار قادتها. لكن مع اعتماد هذه المعايير فحسب لتقييم التقدم وبالنظر إلى أن اثنين منهما، هما القضاء على الأنفاق والتخلص من القيادات، لا يزالان بعيدين كل البعد من التحقق، فإن إسرائيل تخاطر بالتركيز على إزالة التهديدات عوضاً عن صياغة رؤية استباقية لما سيحل محل “حماس”.
صرح نتنياهو أن إسرائيل لا تريد احتلال غزة على المدى الطويل. في الواقع، تتشارك تل أبيب مع العواصم العربية والولايات المتحدة ودول أخرى الهدف المتمثل في منع “حماس” من استعادة السلطة وفرض الهيمنة على غزة وتصدير الإرهاب إلى الخارج. وهذا يشير إلى أن مجال التوافق السياسي في شأن الحكم في غزة بعد “حماس” لا يزال متاحاً. ويعد ترتيب الإجراءات وفق تسلسل محدد أمراً بالغ الأهمية: أولاً لا بد من إنشاء بعثة موقتة متعددة الجنسيات أو بقيادة الأمم المتحدة، ويتعين عليها في نهاية المطاف نقل مسؤولية الحكم إلى كيان بقيادة فلسطينية.
من يحكم؟
لا تزال هناك مهمتان عاجلتان، الأولى تتعلق بوجود جهات إنفاذ القانون في غزة، على الفور وعلى المدى الطويل. إذا تعذر الحفاظ على النظام، لا يمكن القيام بأي أنشطة ذات مغزى لتحقيق الاستقرار والتعافي. وقد تكون العواصم العربية التي تربطها علاقات مع إسرائيل من خلال معاهدات السلام أو اتفاقات التطبيع مستعدة للمساهمة بالأفراد والمعدات والتمويل للوجود الأمني في مرحلة ما بعد “حماس”. لكنها ستحتاج أولاً إلى تطمينات من إسرائيل بأن المدنيين الفلسطينيين يمثلون الأولوية، وأن جيش الدفاع الإسرائيلي لن يعرض سلامة جهات إنفاذ القانون للخطر، وأن هناك خطة لتعافي غزة بعد الحرب وإطاراً دولياً لحق الفلسطينيين بتقرير المصير. وبما أن الحلول المحلية هي الأكثر ديمومة، ينبغي على القوات الفلسطينية في نهاية المطاف أن تحمي المدنيين الفلسطينيين. ويجب على قوات الأمن المرتبطة بالسلطة الفلسطينية أن تبدأ التدريب الآن، بمساعدة المنسق الأمني الأميركي في إسرائيل والأردن.
أما المهمة العاجلة الثانية فتتمثل في التوصل إلى توافق في الآراء في شأن إطار الحكم في غزة. من أجل تنسيق أنشطة ما بعد الحرب والتوضيح للمجتمعات المحلية بأن هناك بديلاً موثوقاً لـ”حماس”، يجب أن يكون هناك كيان مدعوم وممول دولياً وجاهز لاتخاذ إجراءات فورية وإعطاء الأولوية للتعامل مع المدنيين. على سبيل المثال، اقترح مركز ويلسون أخيراً أن تتولى إدارة غزة سلطة متعددة الجنسيات وفريق اتصال دولي، بموجب ميثاق دولي يضفي الشرعية على المهمة. يمكن أن يشمل الفريق دول مجموعة السبع وبعض العواصم العربية والولايات المتحدة وربما حلفاء آسيويين من بينهم اليابان وجمهورية كوريا. ولا بد من أن تحظى السلطة الفلسطينية بدور خاص بها، ولكنها ستحتاج أولاً إلى دعم وضغط إقليميين لمعالجة نقاط ضعفها. ويبدو أن بعثة الحكم المتعددة الجنسيات، التي ستتحول في نهاية المطاف إلى كيان بقيادة فلسطينية، هي الخيار الأفضل في هذه المرحلة من الحرب. ستحتاج هذه البعثة إلى الشراكة مع الجهات الفاعلة المحلية، بمن في ذلك موظفو الخدمة المدنية السابقين في السلطة الفلسطينية، بما يتماشى مع هدف إنشاء إطار حكم غير تابع لـ”حماس” في غزة. لقد نسقت إسرائيل بنجاح مع كبار رجال الأعمال الفلسطينيين في غزة وموظفي الخدمة المدنية غير التابعين لـ”حماس” في الماضي، مما يعني أن الكادر المحلي المناسب موجود اليوم وهو في أفضل وضع ليكتسب ثقة السكان المدنيين في غزة. يمكن لإسرائيل تسريع هذه العملية من خلال إعداد قوائم مدقق فيها بأسماء موظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال للتنسيق معهم ودعم آليات التعاون بين هؤلاء الأفراد وبعثة الحكم المتعددة الجنسيات، من أجل ضمان التخطيط وتسلسل الإجراءات.
ينبغي إعطاء المبادرات ذات التوجه المدني المستوى نفسه من الأهمية الذي تحظى به الجهود العسكرية في غزة.
إذا كانت هناك رغبة في عدم إهدار الفترة الذهبية، سيكون من الضروري إعادة تنظيم الأدوار والمسؤوليات الإسرائيلية في ما يتعلق بغزة. حالياً، تتولى “وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق” (COGAT) مهمة الإشراف اليومي على الضفة الغربية وقطاع غزة. هذه الوحدة تابعة لوزارة الدفاع وهي تقود الجهود الإسرائيلية الرامية إلى تنسيق إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، مع احتفاظها بدورها الأساسي المتمثل في إدارة القضايا المدنية في الضفة الغربية. لكنها لم تتول قط قيادة مهمات تحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب ولم تستثمر في الأفراد أو المهارات أو العلاقات مع الشركاء الدوليين لتنفيذ مثل هذه المهمات بنجاح. إن استمرار “وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق” في تولي قيادة جهود ما بعد الحرب في غزة يخاطر بتجاهل الدرس القائل إن الجهات العسكرية النظامية ليست الخيار الأفضل لقيادة مهمات يفترض بشكل طبيعي أن يتولاها المدنيون. واستطراداً، فإن إعادة إعمار غزة ستتطلب شركاء مدنيين. وبعد إضاعة أشهر من دون إحراز تقدم في التخطيط لغزة ما بعد الحرب، من الضروري إنشاء وحدة تخطيط مدنية عسكرية تضم ممثلين دبلوماسيين وتنمويين وأمنيين من العواصم العربية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة والولايات المتحدة على الفور. ويجب عليها بناء العلاقات والروابط التنظيمية لضمان آليات تنسيق فعالة خلال الفترة الذهبية.
وأخيراً فإن تلبية الاحتياجات العاجلة والملحة في غزة وتمكين إعادة الإعمار على المدى الطويل سيتطلبان تمويلاً وموارد. ووصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي متطلبات إعادة إعمار غزة بأنها الأهم منذ الحرب العالمية الثانية، ويقدر أنها ستكلف عشرات المليارات من الدولارات. ولا يمكن تأمين هذا التمويل إلا من خلال آلية دولية مشتركة. هناك أمثلة كثيرة داخل الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية على برامج التمويل في مرحلة ما بعد الصراع، بما في ذلك عندما حشد البنك الدولي في عام 2022، الالتزامات والتعهدات المالية لأوكرانيا في سبيل دعم رواتب موظفي الخدمة المدنية ومبادرات الصحة العامة وإصلاح البنية التحتية، والتمويل المرن لجهود الإغاثة وإعادة الإعمار. يذكر أن الطريق البحري من قبرص إلى غزة لتوصيل المساعدات الإنسانية يعمل بالفعل وفق خطة تمويل مشتركة، وافقت عليها إسرائيل. وهذا يقدم دليلاً مفيداً على أن الدول بإمكانها التعاون في مجال التمويل عندما تتوافق الإرادة السياسية مع الاعتراف بالاحتياجات الملحة في غزة. وستشكل هذه المواءمة أهمية بالغة لضمان عدم إهدار الفترة الذهبية الحاسمة.