لدى السوريين عامة مشكلة مع كلمة (ذاكرة)، تعود تلك المشكلة في جزء منها إلى تلك الأعمال الفظيعة التي قام بها حافظ الأسد لتغييب الذاكرة السورية الحقيقية واحتكار روايتها، من أجل ربط مسيرة “سوريا” به وحده، وصنع ذاكرة جديدة، فصَّلها على مقاسه، ونصت عليها المناهج الدراسية والكتب والجامعات والمنظمات والاحزاب، تتمثل في كون: “سوريا لا شيء قبله”.
في حين يتذكر السوريون أن آباءهم وأجدادهم وجداتهم يحدثونهم عن الكثير الكثير مما صنعه أولئك بعيداً عن السلطة السياسية. وهذا الصراع “الذاكراتي” جاء ضمن سياق عربي عام، عادة ما اغتَصبتْ فيه السلطة في عدد من البلدان العربية سردية تاريخ الشعب ودوره وأثره وتراثه المادي واللامادي لتبني سردياتها الخاصة بها، ناسبة كل شيء إلى القائد العظيم والعائلة الاستثنائية!
حين خرج السوريون عام 2011 ضمن سياق الربيع العربي، كان أحد الأسباب الرئيسية لخروجهم “كي يحكوا بحرية”، ويعبروا عن آرائهم في سياقات شعاراتية تمثلت في هتافات: الحرية والديمقراطية وإعادة الحقوق، والدولة المدنية. لم يشبعوا بعد من حق “الحكي”. دعْكَ من كون هذا الحكي معبراً عن الواقع أو تجنياً أو إساءة أو مطالبة بالحقوق. عادة ما تترك تلك الرغبة تُشبع وتمتلئ شبعاً، ثم تحدث معلية تنظيمها، وواقع الأمر يكشف أن تلك الرغبة عند الكثير من السوريين لما تشبع بعد!
جانبٌ آخر زاد من حساسية السوريين تجاه كلمة “ذاكرة سورية” أنهم اليوم أبناء ثورة مكسورة، لم تنتصر بالمفهوم العسكري، بل تشرد أبناؤها في مختلف أصقاع الأرض بحثاً عن موطن آمن يحترم إنسانيتهم، ويعيشون على وقود حنينهم وآلام غربتهم، أو بقوا مشردين في الداخل السوري، تتحكم فيهم أنواع من السلطات العنفية. ومعلومٌ أن أبناء الثورة المنكسرة عادة ما يكونون حادّين في ردود أفعالهم ووجهات نظرهم، بخاصة أن اليقين يملأ قلوبهم بصحة خياراتهم التي سلكوها ابتداء من عام 2011، غير أن حساب “قرايا” الثائرين لم ينطبق مع حسابات “سرايا” المجتمع الدولي ومصالح الدول الإقليمية.
في ظل هذه السياقات جاء الإعلان عن هذا المشروع الكبير، مشروع الذاكرة السورية، فجأة ودون مقدمات، ولادة بشروط الاكتمال إلى حد كبير فنياً وتبويباً ورؤية وتنظيماً، دون أن يشارك فيه نفر كبير من السوريين خاصة أبناء الثورة المكسورة، أو يتم التواصل معهم من قبل.
ويحسب أولئك النفر بثقة أنهم الأوْلى برواية ذاكرتهم وثورتهم وسردياتهم. شعر الكثير منهم أنهم غبنوا أو تم تغييبهم، وهذا كله قبل أن يطلعوا على المشروع أو يفتحوا الموقع الخاص به، أو يتعرفوا إلى محتوياته. حضرت في أذهان كثير منهم، نتيجة ما مروا به، فكرة الاحتكار، قبل أن يقرؤوا أن إدارة المشروع معنية بإغناء المادة العلمية وتصحيح الأخطاء وإعادة تنظيم المسارات إن كان هناك خطأ، لم يسمعوا، ولم يقرؤوا، قادتهم الصور النمطية والتجارب السابقة مع الكتابة إلى الأحكام المسبقة، مستفيدين من كون المشروع ولد دون مقدمات، ودون خطة تسويقية أو إعلانية إعلامية لا بمفهوم “البروبوغندا” بل بمفهوم المعلومة الصحيحة، بل إن السرية قد أحاطت به وبفريق العمل فترة طويلة، ولم يعرف كثيرون ماذا يعمل هذا الفريق لسنوات، أو على أي أساس تم اختياره أو ما هي الطريقة التي عمل بها. والسرية وعدم الوضوح فيما يخص الشأن العام، كما هو معلوم، باب مهم للشائعات والمؤامرات والتلفيقات!
وهكذا ما إن أعلن عن المشروع حتى بدأ ما يشبه صراع ضخ المعلومات بين فريق العمل من جهة، وفريق من لم يرضهم العمل من جهة أخرى.
عادة، في الدول والحضارات والشعوب والمؤسسات المعاصرة تعطى الفرصة للأشخاص الذين قاموا بعمل ما أو مشروع ما؛ أن يوضحوا ويقدموا وجهة نظرهم ويطوروا، يأخذون فسحة من الوقت كي يتأكد الفريق المهاجم من رغبتهم بالتطوير وحسن نواياهم، بعد أن فاجؤوا الجمهور بهذا العمل الإشكالي، وخبؤوا تفاصيله عنا نحن معشر الجمهور، في طريقة أقرب إلى رعاية “الولد المدلل” الذي تخاف عليه من “الحسد” أو رغبة بتملكه وأن يبقى لك وحدك وبرعايتك وإشرافك وحدك.
حسنا، إنْ لم يطوروا عملهم ويتجاوزوا هفواته ويردوا على ملاحظات المعنيين والمتأثرين والمهملين والمهمشين والمنسيين والمظلومين وقتها نعلن أنهم لم يردوا، وأنه يجب علينا أن نرفع راية الحرب عليهم! إلا أن الواقع يكشف أن الحرب على المشروع بدأت منذل لحظة إعلانه، حيث تغاضى المهاجمون عن أسماء فريق العمل ومنهجيته ومحتواه وغدت الحرب في وجه من وجوهها لون من ألوان “الحرب لأجل الحرب” والتدمير من أجل التدمير، كما هو الشأن في حروب سورية كثيرة في السنوات الأخيرة، مستهدين بمقولة تقبع في أعماق الكثيرين: إذا كان بلدنا وجغرافيتنا قد ضاعا فلن ينفع الكي بعد الموت!!
نعلم جميعاً أن ذاكرات الشعوب إن توخت الموضوعية لا يكتبها أو يشرف عليها فريق محدود العدد، بل إنه عادة ما تشكل فرق بحثية وعلمية وسياسية وفكرية واجتماعية مختصة، ذات طابع استشاري أو إشرافي على الأقل، لكل مسار من مسارات تلك الذاكرة تمثل أطيافاً من السوريين والأكاديميين العرب والدوليين حيث يقرّ أولئك المنهجيات والآليات والطرائق والإشراف العام، دون الدخول في التفاصيل اليومية للمحررين والموثقين، حيث ستشارك هذه الفرق الإشرافية والاستشارية في شرح المخرجات للجمهور بعد إنجازها، وكذلك تعطي العمل المزيد من المصداقية، ومن جهة أخرى تكشف عن نية ورغبة بِراك أكبر عدد ممكن من المعنيين في تدوين الذاكرة، وبالتالي يكون الجمهور ذاته جزءاً من فريق الإنتاج وليس جمهوراً متلقياً وغير مشارك فحسب!
لا يمكن لكائن من كان، أن يتولى كتابة تاريخ لا يزال الفاعلون والمنتجون والمؤسسون أحياء، ولم يشاركوا برواية أحداثه. من الصعب أن يتولى الدفاع عن مشروع أو شرح فلسفته شخص أو شخصان، الذاكرة وكتابتها مشروع شعبي وطني، لا يستطيع أن يتحمل وزر كتابته والدفاع عنه فرد أو حفنة من الأفراد. هذه مسؤولية جماعية كبيرة.
وأرى أن الباب لا يزال مفتوحاً لرأب هذا الصدع المنهجي والعملي من خلال تشكيل لجان علمية وفكرية وفنية استشارية لكل مسار من مسارات مشروع الذاكرة السورية، تتولى الاستماع للملاحظات وتدقيقها واقتراح الحلول لتطويرها وتوجيه فريق العمل الحالي لرأب الصدوع.
هناك شيء من الخيبة وعدم الشعور بالأمان ضمن السياق السوري والعرب الصعب حالياً، إنْ كان الفريق ذاته الذي عمل سنوات هو من سيقوم بذلك. ومعلوم للمهتمين أنه في تقاليد المؤسسات الحديثة اليوم في سياق الثقافة العالمية حالياً، أنه يجب أن يكون من يعالج الشكوى أو الاعتراض على عمل ما، شخص أو جهة لا تعمل في الفريق أو المؤسسة التي تم تقديم اعتراض أو شكوى بحقها!
الذاكرة ليست خبراً إعلامياً، بل ذاكرة شعب وأنفاس بشر وهجعات أرواحهم، ولا يمكن التعامل معها بطريقة واحدة فحسب، بل هناك طرق أخرى منهجية وعلمية وتدوينية.
أذكر في هذا السياق كمثال أنه وردت في سياقات إخبارية وبحثية قبل سنوات قليلة أن عائلة الملك الهولندي كان لها دور في تجارة العبيد. كان يمكن للملك أن يعتذر ويكتفي بذلك أو يغض النظر، لكن الرجل شكل لجنة علمية محايدة من الجامعات الهولندية قامت بالبحث والتقصي ثم أصدرت تقريرها وبناء عليه اعتذر الملك لمن تأثر بما قام به أشخاص من عائلته!
هناك جانب آخر وهو أن الذاكرة التي تم تدوينها عادة ما يقع الكثير منها ضمن التاريخ الشفوي أو الأثر اللامادي، وتبقى نهباً ليوميات يكتبها هذا الكاتب أو ذاك، لكن ها هنا فريق العمل وإدارة المشروع حاولوا تحويلها من الإطار الشفوي إلى الإطار الكتابي وهي حية الأحداث!
وعادة ما يفعل الزمن فعله فيها إنْ كتبت بعد خمسين عاماً مثلاً، يبقى الأقوى فيها ضمن نظرية صراع القوى، لذلك فإن تحيينها في جانب منه هو أحد الأسباب في ضرورة حدوث ردات فعل عنيفة كما نرى، وهو ما لم يحدث لو كان موضوع الذاكرة السورية هاهنا مرحلة ما بعد الاحتلال الفرنسي مثلاً!
المتأمل لمشهد المعترضين يجد أنهم انقسموا إلى عدد من الفرق التي بدأت بالنظر إلى المشروع كل من وجهة نظره وطريقته وأسبابه:
– الفريق الأول: هم أولئك الذين ورد اسمهم أو أحداث كانوا شهوداً عليها في أحد مدونات الذاكرة السورية بطريقة غير ما يريد أو غير ما قام به، خاصة أن هناك من ذكره وربما أخطأ في الرواية أو نسي تفصيلاً، وهذا الفريق من المهم تدوين وجهة نظره والتواصل معه في إطار التصحيح أو حق الرد.
– الفريق الثاني: هم فريق المغيبين عن الذاكرة السورية، وهؤلاء نفر كبير من السوريين، حيث يمكن للذاكرة أن تكون مشروعاً مستمراً برؤية وآليات عمل واضحة، وأن يكون باب الإضافة والتطوير والتدقيق والتصحيح فيها متاحاً. يحسب هذا الفريق أن من حقه أن يكون موجوداً في الذاكرة حيث إن له سرديته ورؤيته وشهاداته.
– الفريق الثالث: هم أولئك الذين يريدون احتكار الذاكرة السورية لكن بطريقة “السلبطة” والغوغائية والمهاجمة من أجل المهاجمة، شأنهم شأن أولاد الحارة حين كنا أطفالاً تحت شعار حقنا في المشاركة في المباراة “يا لعيبة يا خريبة” يحسبون أن مشروع الذاكرة هو الائتلاف الوطني السوري!
– الفريق الرابع هم من ينظرون بريبة وتشكيك إلى كل ما يصدر عن المركز العربي أو فضاءات ميديا، لا يقرأ أو يشاهد أو يتابع. فريق صارت إيديولوجية حضوره في الحياة العامة السورية قائمة على العداء والتشكيك في كل ما يصدر. له أسبابه ومصالحه ورؤاه ووعيه، لا يقبل حواراً أو نقاشاً ولا يريد أن يقرأ أو يطلع!!
وجزء من هذا الفريق قد يكون لديه مشكلة شخصية مع أحد من فريق عمل الذاكرة، حيث ينسون كل ما قام به هذا الفريق التحريري والفني من عمل كبير وعظيم عبر خمس سنوات ونيف، ليتذكروا الهفوات فحسب! وهذا الفريق لو وضعت القمر في يمينه لن يرعوي، أو يتغير أو يتبدل!
مشروعُ الذاكرة السورية مشروع فكري وبحثي عظيم واستثنائي ومختلف، وغير مسبوق. ومطلوبٌ منا نحن السوريين خاصة بعد أن أن أنجز فريق العمل مهمته بحدود ما استطاع، أن نحافظ عليه ونصونه بالتدقيق والمتابعة والتصحيح والرعاية بل وحسن النوايا كذلك، وتقديم الإيجابي على السلبي فهل سنعبر إلى الأمام، متسلحين بموضعيتنا وحيادنا ورغبتنا بإنتاج محتوى مختلف وتوطير ما هو موجود حالياً أم سنبقى على جسر التشكيك والعدمية والتجريح؟!