مَن المسؤول عن إسدال الستائر على معظم الأخبار الراصدة لما تنفذه إسرائيل من مجازر في الضفة الغربية لتصبح هذه الأخبار في ذيل قائمة الأخبار الرئيسة، وكأن مركزية الحدث هو فقط حرب الإبادة في غزة، وكلُّ ما عدا ذلك استثناءٌ؟!
مَن المسؤول عن تأخير أخبار جريمة اغتيال أكثر من خمسمائة فلسطيني، واعتقال أكثر من ثمانية آلاف معتقل فلسطيني في الضفة الغربية، منذ حملة الإبادة في غزة وحتى شهر أيار 2024؟!
مَن المسؤول عن جرائم القتل في مدن وقرى الفلسطينيين الصامدين منذ العام 1948م، فقد بلغ عدد القتلى 242 قتيلاً العام 2023؟!
أعلم أن الإجابة الدبلوماسية عن كل تلك الأسئلة هي أن المسؤول الأول والأخير عن كل ما جرى هو الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الإجابة هي أشهر الإجابات الدبلوماسية التي تُسمع في وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، وهي وإن كانت صحيحة إلا أنها إجابة ناقصة، لأن كل سياسي أو قائد حزبي فلسطيني يوفر الغطاء بجهله السياسي أو يقرر مصير الوطن ليحقق فخره الشخصي واعتقاده العقدي النرجسي، ويغير الاتجاه السياسي المتمثل في الحفاظ على ركائز النضال الفلسطيني الثابتة، ويختصر النضال الفلسطيني بمعناه الواسع ويحصره فقط في قدرات غزة العسكرية، ويبرر الإبادة الجماعية وتدمير غزة بأكملها قائلاً: «إنها ثمنٌ ضروري لاستعادة الحقوق وتحقيق الانتصار». إن كل قائد حزبي أو مسؤول سياسي يتبنى هذه العقيدة الأحادية العسكرية والأيديولوجية الأصولية الطوباوية.
هو بلا أدنى شك مشارك في إسدال الستائر على قضايا فلسطين المركزية، والأخطر من ذلك أنه يساهم في تدمير هذه الركائز الوطنية المقدسة!
أما عن أخطر الملفات التي اندحرت بسبب ممارسات تلك القيادات، وجرى نقلها إلى ذيل قائمة الاهتمام، هو ملف الفلسطينيين الصامدين في أرضهم منذ العام 1948 ممّن اعتدنا أن نطلق عليهم تسمية مُضلِّلة (عرب48) فهو الملف الأخطر، لأننا لم نعد نكترث بقمعهم وحصارهم ولا بعدد ضحايا العنف والقتل المدبر والمخطط لهم، ففي دراسة جديدة أجراها مركز «طاوب» للأبحاث حلَّل فيها جرائم القتل في إسرائيل وفقاً للمجموعات السكانية، جاء فيها «لو كان المجتمع العربي دولة مستقلة، لجاءت في المرتبة الثالثة بعد كولومبيا والمكسيك في معدل الجريمة على سلّم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ووفقاً للجدول الذي يرصد معدل الجريمة في كل دولة، فإن كولومبيا تقف عند 35 حالة قتل لكل 100 ألف شخص، والمكسيك 24، في حين أشارت النتيجة المتعلقة بالمجتمع العربي في إسرائيل إلى 11 جريمة لكل 100 ألف شخص»!
كذلك الحال، اندحر ملف اغتصاب أرض النقب، ولم يعد يُذكر كثيراً في الإعلام مثلما كان الحال قبل العاشر من تشرين الأول، فلم يُثِرْ عددُ مرات هدم العراقيب حتى أول أيار 2024 حميةَ أحدٍ من المتابعين والمحللين ممّن امتهنوا فقه تحليل صواريخ غزة وكتائب الجيش الإسرائيلي، فقد وصل عدد مرات هدم عنقاء فلسطين (العراقيب) 225 مرة حتى 18/5/2024، وقد أسدل الإعلام ستائر النسيان على كل ما يجري في النقب. نسينا ما حدث العام 2013 حين أقرت سلطات الاحتلال قانون «برافر» للقضاء على الوجود الفلسطيني، وكان القانون ينص على الاستيلاء والمصادرة لـ 850 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين البدو، وهدم 35 قرية لا تعترف بها إسرائيل، وتهجير نحو 100 ألف من الفلسطينيين، مع العلم أن مخطط التهويد لا يزال يُنفذ بوسائل أخرى!
كذلك لم نعد نكترث بما يخططه المحتلون لمشاريع اغتصاب الأرض في الخليل وكل الضفة الغربية، لأن الاستيطان تضاعف في ظل عملية محو غزة عن الوجود. من يتصفح نشرة مركز «بتسيلم» لحقوق الإنسان، يوم 20/5/2024، يجد تقارير عديدة عن اغتصاب كل ما تبقى للفلسطينيين، وفي التاريخ نفسه نشرت الجمعية الإسرائيلية «عير عميم» التقرير التالي: «استغلت إسرائيل أحداث السابع من أكتوبر 2023م لهدم منازل الفلسطينيين، ضمن سلسلة واسعة من إجراءات القمع والترهيب العنيفة التي تستخدمها إسرائيل حالياً ضد الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها، منها العقاب الجماعي، عنف الشرطة، إخلاء المنازل، وإغلاق الحرم القدسي الشريف في وجه المسلمين لعدة أشهر، وأكثر من ذلك. كل هذا يدل على أن الحكومة تصر في هذه الحرب على بذل كل ما في وسعها لإشعال النار في القدس الشرقية، ويتضح من المراقبة الطويلة الأمد لمؤسسة «عير عميم» أن إسرائيل تجنبت في الماضي هدم المنازل خلال فترات الصراعات العسكرية من منطلق رغبتها في منع انتشار العنف إلى ساحات أخرى، ومع ذلك فإن الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية لا تخجل من انتشار العنف، بل وربما تكون مهتمة به»!
أما عن ملف القدس! فإن ما حل بعروس فلسطيننا (القدس) هو الأبشع، فقد رصد تقرير دائرة أوقاف القدس أواخر نيسان 2024م: «أن 1679 مستوطناً اقتحموا الأقصى، وأدى المقتحمون رقصات استفزازية على أبواب المسجد الأقصى وداخل أسواق البلدة القديمة، حاملين أعلام الهيكل المزعوم. ويعدّ الاقتحام هو أوسع اقتحام للأقصى منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول الماضي. وجاءت الاقتحامات الواسعة استجابة لدعوة منظمات «الهيكل» المتطرفة لعناصرها للوصول إلى الأقصى في عيد الفصح اليهودي، ولأول مرة تجري عمليات ذبح القرابين»!
أما الملف الذي رفع شعاره زعماء أحزاب المغامرات السياسية الفلسطينيون واعتبروه شعاراً مركزياً «تحرير أسرانا من سجون الاحتلال»، هو أيضاً لم تعد له الأولوية، فقد تُرك الأسرى يعانون الأمرَّين، فهم يتعرضون منذ السابع من تشرين الأول لأبشع الجرائم في حقهم، يُحرمون من العلاج الطبي ويعذبون ويُغتالون، وقد استشهد ستة عشر أسيراً.
أما عن أشهر القضايا، والتي جرى التخلص منها نهائياً وإزاحتها وإبعادها إلى صندوق المحفوظات الفلسطيني المكتظ بالملفات المحفوظة بسبب المغامرات العسكرية والسياسية، فهو ملف اللاجئين، فقد انصبَّ اهتمام العالم ليس على عودة اللاجئين والمهجرين والنازحين إلى بيوتهم العام 1948، بل الحصول على الغذاء وعودة المهجَّرين إلى شمال غزة، أي أن «الأونروا» أصبحت جمعية خيرية أكثر من كونها مؤسسة دولية لحفظ حقوق الفلسطينيين المشردين والعمل على استعادة حقوقهم المشروعة المتمثلة في عودتهم إلى بيوتهم وممتلكاتهم المسلوبة!