تونس

الإصلاح الزراعي والمخاض التونسي العسير

إن حل القضايا الملحة المتعلقة بأزمة المياه تشكل خطوة حاسمة لتحقيق سياسة غذائية سيادية ومستدامة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بهزات حقيقية في القطاع

إذا كان ثمة درس يمكن أن تستخلصه تونس من أزمة النقص الحاد للموارد المائية، فهو إعادة النظر في الاختيارات المتبعة في التنمية الاقتصادية وخاصة التنمية الزراعية، التي تطرح وضعيتها اليوم بشكل ملح، حتمية اعتماد مقاربة أكثر فاعلية، ومغايرة لما تم اعتماده في القطاع على جميع الأصعدة خلال عقود خلت.

الزراعة تضررت بشدة خلال السنوات الماضية، ليس بسبب الجفاف فقط، وإنما أيضا بسبب الإهمال، وانشغال السياسيين بخلافاتهم وصراعاتهم على السلطة. واليوم تمر الدولة بمخاض عسير لاستعادة دورها في هذا المجال الإستراتيجي، الذي تراهن عليه للنهوض بالاقتصاد العليل، متسلحة بمقولة “ويل لأمة تأكل مما لا تنتج”، لكن التحديات تبدو كبيرة مع ندرة المياه والتغير المناخي.

التساؤل، الذي يتداول كل يوم بين أوساط الخبراء والمزارعين ومربي الماشية والناشطين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، هو ذلك الذي يتعلق بالأسباب التي جعلت الدولة تعجز عن تحقيق اختراق، ولو بسيط، حتى الآن، في هذا الملف الحساس رغم الدراسات الكثيرة، التي حذرت منذ سنوات، وحتى قبل 2011، من تعرض البلاد إلى أزمة مياه حادة.

في تونس، كما هو الحال في ليبيا والجزائر والمغرب، تقلص تساقط الأمطار بشكل مقلق، وتراجعت إلى ما دون عتبة الفقر المائي، والمحدد بألف متر مكعب سنويا لكل فرد، وفقا للبنك الدولي، والذي يتوقع نقصا حادا أقل من 500 متر مكعب بحلول نهاية هذا العقد. لكن المشكلة قد تتفاقم مع النمو الديموغرافي، وأيضا مع تعويل الدولة أكثر على تصدير حصة من المحاصيل لتوفير العملة الصعبة، وبالتالي يواجه المسؤولون مفارقة عليهم معالجتها بشكل مدروس ودون خسائر. قد يكون تحقيق ذلك صعبا، لكنه ممكن.

بفعل قلة مياه السدود لجأت مصالح الدولة إلى تقنين حصص ري المزارع واقتصارها على بعض المحاصيل واستخدام البذور المقاومة للجفاف كحل مؤقت ومرحلي إلى حين توسيع قاعدة محاطات التحلية بتمويلات خارجية، ومعالجة مياه الصرف الصحي، بما يضمن أمنها المائي وسدّ حاجات الزراعة. لكن ذلك لا يكفي، إذ أن التسهيلات المقدمة للمزارعين وخاصة في الأرياف لا تبدو مشجعة.

لا شك أن إهمال القطاع الزراعي والصعوبة في مواجهة تحدياته المعقدة نتيجة ندرة المياه العصب الرئيس لإنتاج المحاصيل، دفعا أعدادا من سكان الأرياف إلى النزوح إلى المدن، الأمر الذي زاد في تأزيم الأوضاع أكثر، مما يستوجب معالجة الأوضاع معالجة جذرية بعيدا عن أساليب الترقيع، التي ظل المسؤولون يرددونها ويعتمدونها دوريا، دون تحقيق نتائج ملموسة.

يعزى بطء المعالجة لأسباب هيكلية وتنظيمية وتقنية داخلية مقموعة بيروقراطيا، من جهة، ولمصاعب مرتبطة بالأزمات العالمية والصدمات الخارجية من جهة ثانية. وتتجلى هذه الأزمة في مظاهر لا يمكن حصرها، لعل أبرزها تخلف الزراعة وضعف إنتاجيتها ومحدودية طاقتها التشغيلية رغم المقدرات الهائلة المتوفرة، ذلك أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تتخطى الخمسة ملايين هكتار، لكن لا يستغل منها سوى 24 في المئة فقط.

وكدليل آخر على سوء إدارة الدولة للقطاع، ظلت ميزانية وزارة الفلاحة الخاصة بالاستثمار، مثلا، تدور في حلقة مفرغة وعناوين معروفة وأعمدة ثابتة مع كل حكومة تأتي، كترميم السدود وتوفير كميات البذور وشراء معدات زراعية خفيفة والحملات الدورية لتلقيح المواشي، دون التعمق أكثر بشكل فني في كيفية الاستفادة من المخصصات السنوية، وتوظيفها على النحو الذي يُبنى على مسار تحقيق الاكتفاء الذاتي.

من أهم المشاكل، التي تعترض الزراعة، كذلك، وتتطلب معالجة عاجلة، التعامل الخاطئ للدولة مع القطاع على مدار سنوات، لدرجة التفريط في البذور والمشاتل المحلية في مقابل استيراد بذور ومشاتل مهجنة من الخارج، وجعلها في تبعية لدول أخرى، تحت يافطة تشجيع الاستثمار وتحسين الإنتاجية، بيد أن النتائج كانت عكسية، حيث اكتنزت شبكة مورّدي الأموال على حساب دمار المزارعين.

إن حل القضايا الملحة المتعلقة بأزمة المياه تشكل خطوة حاسمة لتحقيق سياسة غذائية سيادية ومستدامة، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بهزات حقيقية في القطاع، في بنيته وتنظيمه، وإحداث تحول في هيكلته وأولوياته، واتخاذ حزمة تدابير تنظيمية تواكب الواقع مع وضع تصور شامل لإستراتيجية فعّالة تقطع مع الرتابة، التي طبعت هذا المجال لسنوات، تقوم على الشفافية والحوكمة ومكافحة الفساد.

ولذا، فإنه لبناء اقتصاد مستقل، والخروج من عباءة التخلف المائي والغذائي، من الضروري اليوم إجراء إصلاح زراعي عميق يتجاوز الكلام المنمق والشعارات الرنانة مع التركيز على إشراك أصحاب المصلحة في اتخاذ القرار أيضا، لأنهم في الصفوف الأمامية لهذه المعركة الوجودية، التي بات فيها الإجهاد المائي والتكاليف الباهظة بسبب الصدمات الخارجية محددين رئيسيين في رسم ملامح مستقبل القطاع.

يتمثل الإصلاح بشكل رئيسي في محاور أساسية تتعلق أولا، بالإسراع في معالجة مسألة ملكية الأراضي وتصحيح أوضاعها القانونية وتوزيعها على المزارعين لاستغلالها وتحقيق مبدأ المساواة مع أصحاب الحيازات الكبرى، وثانيا، القيام بهيكلة كافة فروع الإنتاج فيها وطرق تمويلها وربطها بالقطاعات الأخرى، ولا يمكن هنا إغفال دور البحث العلمي وتوظيف التكنولوجيا لمواكبة عصر الرقمنة، أما المحور الثالث، وهو لا يقل أهمية، فيتمثل في تنظيم السّوق المحلية بإحكام في الجوانب التي تتّصل بها، وعلى رأسها سلاسل الإمداد.

متى نستيقظ، ونعي أن الأمن المائي والأمن الغذائي شيئان متلازمان؟ وأن الاستعداد الحقيقي لتحديات المناخ لا يمكن أن يتم بالحلول الطارئة، التي ستتلاشى ما إن تذهب حكومة لتأتي أخرى وتعيد نفس الكرّة إلى ما لا نهاية، ويظل التونسيون، والمزارعون هم ضحايا سياسات عقيمة لا تسمن ولا تغني من جوع!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى