أزمة قيادة في إسرائيل
بدأت أزمة القيادة في إسرائيل بالافتضاح التام بعد أن وُجّهت له التهم المعروفة حول الفساد، ووصلت الأزمة في هذا المجال إلى ذروتها مع تزعّمه لـ»الانقلاب القضائي» في دولة الاحتلال، واستعداده من أجل تنفيذ برنامجه لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني
بالعودة إلى سنوات الحكم الطويلة التي قضاها رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يمكن الاستدلال الآن بأنّ من الأسباب التي جعلته قادراً على الاستمرار بهذا الحكم، ليس مجرّد الاتجاه نحو المزيد من العنصرية والتطرُّف في المجتمع الإسرائيلي، وليس مجرّد ضعف قوى «اليسار» وتلاشيه عملياً، وعدم تبلور ونضج تيار مركزي فاعل ومتماسك في أوساط ما يسمّى «معسكر الوسط»، وإنما بسبب الغياب الحقيقي لقيادات إسرائيلية من وزن رجالات الدولة الذين بمقدورهم أن يزاوجوا بين اتجاهاتهم «الفكرية» وبين المصالح «القومية» العليا للدولة.
في فترات معيّنة اعتقدت غالبية، وغالبية كبيرة أحياناً بأنّ نتنياهو هو أحد النماذج القيادية التي تتحلّى بهذه المواصفة، بل وصلت الأمور ببعض المبهورين بشخصيته القيادية إلى تصنيفه بما يوازي شخصية رئيس وزراء دولة الاحتلال الأوّل ديفيد بن غوريون بكلّ ما عُرف عنه من مقدرة قيادية، ومن كفاءة وثقافة، ومن حنكة ودهاء مسلّم بهما من مناصريه، ومن مناوئيه على حدٍّ سواء.
وبالعودة إلى تلك الفترات المتتابعة من «حُكمه» نستذكر الآن كيف أنّ الإعلام الإسرائيلي، والكثير الكثير من القيادات الإسرائيلية من أوساط «اليمين» و»الوسط»، وأحياناً من هوامش ومخلّفات «اليسار» المندثر كانت تتغنّى بنتنياهو كملك جديد لإسرائيل، وكيف أنّه نجح بنقلها إلى مصاف الدولة العظمى، وفرض الرؤية الإسرائيلية على كامل الإقليم، وعزّز من مكانتها دولياً، واخترق، أو أعاد اختراق إفريقيا، وتغلغل في آسيا، وأرسى العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية بصرف النظر عن هوية البيت الأبيض، تماماً كما أعاد تكتيل أوروبا حول أطروحات إسرائيل الرافضة للسلام، والتي ليس لديها سوى فرض هذا السلام بالقوّة، وفرض الدور الإقليمي لها كدور مهيمن، وقدمها للإقليم، ولبعض دول العالم باعتبارها الضامن الوحيد للحفاظ على مصالح «الغرب»، والطرف الوحيد الذي يحمي النظام الإقليمي في المنطقة، ويحافظ على الأنظمة السياسية فيه، سواء كانت هذه الأنظمة دولا قوية وكبيرة، ولها مكانتها تاريخياً في الإقليم، أو دولاً صاعدة، وصغيرة وطامحة إلى ما هو أكبر منها بكثير.
هكذا فعلاً كانت تبدو الصورة في فترات معيّنة، وهكذا تمكّن نتنياهو أن يوهم المجتمع الإسرائيلي، وأن يخدع المجتمع السياسي في إسرائيل.
كانت مناوراته ومداوراته قد ظهرت مبكراً، وكان بعض العارفين به، والمتابعين لمسيرته يحذّرون من رجل متلاعب، يُسمع كلّ طرفٍ ما يرغب بسماعه، ويُوعد مع سبق الإصرار بعدم الالتزام بوعوده، وأنّ لديه مهارات كبيرة بالإقناع، وبتغليف الأكاذيب بعدد ملموس من أنصاف الحقائق، إلّا أنّ المجتمع الإسرائيلي لم يكن مستعداً بعد إلى تصديق ما كان يُروى عنه من «مصائب» تمسّ ظاهر ما كان يبدو عليه، وكذلك لم تصدّق النخب الإسرائيلية.
بعض القيادات في العالم، ومنهم رؤساء دول كبرى مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا ودول أخرى كثيرة، بمن فيهم قادة بعض الدول العربية تنبّهوا مبكراً إلى هذه الشخصية التي تقطر كذباً وخداعاً، وبعضهم وصلت به الأمور إلى ما يشبه تجنّب مجرّد الحديث إليه ومعه.. إلّا أنّ المجتمع الإسرائيلي لم يكن قد اكتشف بعد انحدار الحالة القيادية في إسرائيل.
بدأت أزمة القيادة في إسرائيل بالافتضاح التام بعد أن وُجّهت له التهم المعروفة حول الفساد، ووصلت الأزمة في هذا المجال إلى ذروتها مع تزعّمه لـ»الانقلاب القضائي» في دولة الاحتلال، واستعداده من أجل تنفيذ برنامجه لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، ومن أجل تأمين سيطرة أعوانه وأترابه من «اليمين العنصري»، و»اليمين الكهاني»، وقطع الطريق على القوى «الليبرالية» من باقي المكوّنات السياسية الصهيونية.
ودخلت إسرائيل للمرّة الأولى في تاريخها في حالة انقسامٍ سياسي حادّ، وفي حالة من التشرذم التي لم يسبق أن شهدتها أو مرّت بها، وبما يشبه ظاهرة الاستقطاب التي تتقاطع في الكثير من أوجهها مع القبلية السياسية، يتصارع جانبا هذا الاستقطاب على هوية الدولة، وعلى مستقبل نظامها السياسي بعيداً، وبعيداً جداً عن التحدّيات الحقيقية التي تواجهها الدولة العنصرية، من واقع صراعها ضدّ الشعب الفلسطيني.
استثمر نتنياهو حالة الشعبوية، والقبلية السياسية أبشع استغلال، ولم يتردّد «بخوض» معركة الانقلاب على القضاء، وأظهر تصميماً عجيباً على المضيّ قدماً به مع بعض المراوغات والأكاذيب المستجدّة، دون أن يخشى سقوطه أو خطر انزلاق الدولة والمجتمع في إسرائيل إلى حواف الحرب الأهلية.
كانت تُهم الفساد، و»الانقلاب القضائي» كفيلة في أيّ واقعٍ سياسي كالواقع الإسرائيلي أن تطيح به، وأن ترسله إلى البيت، أو أن تودعه السجن، إلّا أن غياب قيادات إسرائيلية من وزن رجالات «الدولة» وخراب المجتمع السياسي في إسرائيل، وتهتّك روابطه الداخلية، وشبكات علاقة هذا المجتمع مع قضايا حيوية حالت دون سقوطه بالرغم من نزول مئات آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع، في موجات متتالية من الاحتجاجات والتظاهرات الصاخبة، وبالرغم من أن «الانقلاب القضائي» مفضوحٌ إلى أبعد الحدود، وبالرغم من أنّ تُهم الفساد ثابتة، ولا يساورها أيّ شكوك جدّية إلّا أنّ ذلك لم يكف ولم ينفع، ثم جاء الإخفاق الكبير في 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وهُزمت الفرق العسكرية في «غلاف غزّة»، وانحدرت قوّة الردع الإسرائيلي إلى أسوأ مستوياتها، وتتالت الخسائر الإسرائيلية على المستوى الإستراتيجي الشامل، من عزلةٍ دولية، ومن عجزٍ ميداني في قطاع غزّة وجنوب لبنان، وانكمش الردّ الإسرائيلي إلى حدودٍ مزرية بعد «الردّ الإيراني الكبير» على عملية الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية، وتحطّمت «ألوية النُّخبة»، وبدأت تسوء علاقة دولة الاحتلال مع كلّ دول العالم تقريباً، وتهجّر عشرات آلاف الإسرائيليين، وتراجع الاقتصاد، وهاجر آلاف آخرون حتى وصلت ثقة المجتمع بالدولة والجيش إلى مستويات مخيفة عبّر من خلالها أكثر من ثلث الإسرائيليين اليهود عن أنّ إسرائيل لم تعد صالحة للعيش فيها بلنسبة لهم، ولأولادهم حتى الآن.
السبب الحقيقي ليس ظروف الحرب لأنّ أداء الحكومة فيها أكثر من كلّ سيئ، والسبب ليس قدرة نتنياهو على المناورة، لأنّ هامش هذه المناورة ضاق أكثر مما ينبغي، والسبب ليس الإجرام الذي مارسه لأنّه تحوّل إلى عار لطّخ كيانه كلّه، ووضعه أمام مساءلات خطرة من قبل مؤسّسات القانون الدولي.
السبب الجوهري في فشل الإطاحة به هو خراب المجتمع السياسي في كيانه، وغياب القيادات المؤهّلة، وهي مؤشّرات تُضاف إلى مؤشّرات أخرى من بداية هزيمة المشروع الصهيوني الذي استنفد على ما يبدو كلّ احتياطاته من الروايات «التلمودية»، ومن الأساطير الدينية المزعومة، ومن القدرة على البقاء في الحالة الاستعمارية، والتملص من استحقاقات الصراع مع الشعب، وكذلك قدراته على ترميم هزائمه، واستعادة قوّة الردع لديه، والقدرة على المحافظة على درجةٍ ضرورية من التماسك الاجتماعي والثقافي في مجتمعه المهجّن.
والجنرال بيني غانتس ليس سوى أحد نماذج العجز القيادي، وأحد قيادات التماهي مع نتنياهو، وقلبه ليس على كيانه الكولونيالي وإنّما عينه وكلّ حواسه على صندوق الانتخابات فقط.