ينطلق الاحتلال في سرديته المغرضة من عملية السابع من تشرين الأول طمساً وتبهيتاً لليوم السابق لها، تهرباً من أصل الحكاية ويومها الأول. ولا ينفك عن إهالة التراب على يوم النكبة العام 1948 ويوم النكسة في العام 1967، وإطباق سيطرته على فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.
وفي سبيل تزوير التاريخ والجغرافيا، واظب على تعميم معلومات مضللة لتجميل وتلميع الصورة الإيجابية للاحتلال من الخارج، عبر الإفراط في بث الدعاية بكثافة في سعيه إلى غسل الأدمغة في مواجهة الانتقادات الموجهة للسيطرة على الرأي العام بما يعرف بـ»الهاسبارا».
ولا شك أن تزوير التاريخ والجغرافيا هو أسلوب دولة الاحتلال القديم الجديد في صياغة السردية الإسرائيلية، لتخليص العالم من ذاكرة اليوم الأول بما هي نكبة الشعب الفلسطيني ونشوء مأساة الشعب الفلسطيني وقضيته ومحاولاته من أجل استئصالها من الذاكرة، عبر إبادة المكان والتطهير العرقي، حين تفتق العقل الصهيوني وأقدم على ارتكاب جريمة تدمير خمسمائة وثلاثين قرية وبلدة فلسطينية ما زالت حجارتها العتيقة ونبات الصبار وشجر الزيتون تقف شاهدة على الجريمة، وأرفق تلك الجريمة وبالتوازي معها قيام عصاباته المسلّحة كـ»ليئومي» و»الهاغاناه» و»ليحي» وغيرها بارتكاب مئات المجازر الدالة على محاولات الإبادة الجماعية للفلسطينيين منذ ذلك الحين، أكثرها محفوظ بين ثنايا الكتب التاريخية، مُكذباً سردية الاحتلال الذي لم يحسن حياكة تخيلاته حتى مع استخدام الأساطير والخرافات، فبدأ في إبادة المكان، وسحب ملامح فلسطين، وتقطيع أطرافها، والاستيلاء على زيتونها ونخيلها، ومنع الهواء والماء عنها؛ لجعل الحياة برمّتها ثقيلة الوقت على أهلها.
وغني عن البيان أن جميع محاولات الاحتلال الدؤوبة الهادفة لإنكار وجود فلسطين وطمس إنسانيتها قد باءت بالفشل الذريع، ولم يستطع التدمير وإعادة التدمير، وتكراره مرة تلو المرة، من إخفاء الشخصية الفلسطينية المميزة بالعناد والتضحية والمثابرة، بل لم يتمكن من تزوير الأرض وعبرنتها وطمس لغتها ومحو قصة اليوم الأول قبل «الطوفان»، وبقيت أرض فلسطين عربية تتكلم العربية إلى يومنا هذا، فحمت وجودها وصانت تراثها رغم اختلال القوة والدعم الذي يلقاه الاحتلال.
وليس مصادفة تركيز رواية الاحتلال وتمترسها على اليوم الثاني بعد «الطوفان»، بل هناك أهداف خفية خبيثة أبرزها استجلاب العالم عنوة نحو سرديته المُعلّبة؛ من أجل تسويغ حربه الوحشية لإبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وإعمال السيوف الحديدية على الرقاب دون إخفاء غاياته وأهدافه في اجتثاث الشعب الفلسطيني المصنف في مخيلتهم من الحيوانات البشرية، لتشريع إبادته على توقيت الساعة الرملية، ولسبب بسيط جداً هو أن علاقة الفلسطيني مع وطنه علاقة روحانية، بينما تميزت علاقة الإسرائيلي بفلسطين بالتصادمية لأنها أخذت عنوة بالحديد والنار.
قصة اليوم الثاني لن تمر لتبرير اليوم التالي للحرب، لأن مرورها يعني أن القتيل جورج فلويد الغاضب على التمييز العرقي هو المذنب، وليس سَوق أجداده كالعبيد من موطنهم الأصلي لخدمة البيض وتجريدهم من إنسانيتهم. وقصة اليوم الثاني تجعل الطفلة الفيتنامية الهاربة بحروق جسدها الصغير من «النابالم» الأميركي هي المذنبة لاعتراضها طريق القنبلة، ويصبح الصحافي الذي ينقل الصورة الحقيقية للهمجية الصهيونية في قطاع غزة مذنباً يستحق رصاصة في عيْن الكاميرا !!
وبقناعتي أن التمترس الإسرائيلي حول اليوم الثاني للطوفان من أجل ترتيب الحل التصفوي في اليوم التالي للحرب.. سيرتد إلى رقابهم، فالهزة على مقياس ريختر الفلسطيني أنتجت عملية الطوفان، بينما جاءت ارتداداتها في طوفان الوعي والمعرفة لليوم الأول للنكبة، لتتكاثف بعد اليوم التالي للعام السادس والسبعين لينفجر عداد خزان القمع والقهر، محدثاً انفجاراً هائلاً امتدت تداعياته لتصل إلى المجتمعات الحرة وينفجر طوفان الجامعات، جاعلاً من جرائم الإبادة في قطاع غزة مصباحاً كاشفاً يعري رواية الاحتلال الملفقة ويكشف زيفها الفاضح، ولينفرد طلبة الجامعات في قراءتهم القضية من يومها الأول.
خلاصة القول، إنه لم يعد يجدي تلطي الاحتلال خلف معاداة السامية ضد الفلسطينيين من أبناء سام، ولم يعد يفيدهم التغطي بنصوص توراتية حول اختيار التاريخ لقيادة الحرب ضد العدو الغزاوي الكاره لرب إسرائيل، بل إن إسرائيل رويداً رويداً باتت تعاني من العزلة العالمية على الأقل على مستوى الرأي العام، وما زاد في أزمتها تلك التحولات العنصرية والمتطرفة الجارية في دولة الاحتلال، بعد أن أدخلت الحريدية إلى صفوف المؤسسة الأمنية والعسكرية والأمن الداخلي، حيث باتت إسرائيل أمام العالم، وأمام قسم وازن من جمهورها، دولة إرهابية من طراز رفيع، وما تشكيل كتيبة «نتساح يهودا»، التي معظم أفرادها من سكان المستوطنات، وتسليح عصابات المستوطنين بشكل جنوني، إلّا دليل واضح، وضوح الشمس، على أن حقيقة إسرائيل كدولة احتلال عنصري توسعي أصبحت معروفة حتى لأقرب مقربيها من حكومات الغرب، ولم يعد ينطلي على شعوب العالم أساطيرها المفبركة التي تخفي فاشيتها المتجذرة.