ملفات فلسطينية

الفرصة الأخيرة لحل الصراع وإقامة الدولة الفلسطينية

ضمان تنفيذ الحل يتطلب انسحاب الجيش الإسرائيلي من أراضي الدولة الفلسطينية المتواصلة الأراضي، على أن يتم ضمان أمن إسرائيل بعد انسحاب جيشها من خلال قوات دولية أو عربية تنتشر على الحدود المرسومة للدولتين

خلال السنتين الماضيتين أفرجت السلطات البريطانية عن بعض الوثائق الخاصة بفلسطين خلال فترة انتدابها، وتفيد إحدى هذه الوثائق بأن الثورة الفلسطينية العام ١٩٣٦ (الإضراب الكبير)، كادت تنهي المشروع الصهيوني وتفشل إقامة دولة إسرائيل لولا تدخل (أصدقائنا)، وهم قادة الدول العربية الذين أصدروا نداء إلى الثوار الفلسطينيين بإلقاء سلاحهم والركون إلى السكينة مع تطمينهم بأن (صديقتنا) بريطانيا العظمى تعهدت بدعم الحقوق الفلسطينية، لكن إضافة إلى قادة الأنظمة العربية، هناك بعض النخب الفلسطينية في المدن والتي خشيت من ثوار الأرياف فانضمت إلى موجهي النداء.
أي بمعنى أنه لو لم يكن هناك نداء، ولو لم تستجب النخب الفلسطينية مع هذا النداء لما قامت دولة إسرائيل في الأساس بفضل نضال وصمود الشعب الفلسطيني.
منذ ذلك العام ١٩٣٦ والشعب الفلسطيني في قتال ونضال مستمر دفاعاً عن أرضه وحقوقه السياسية والوطنية والإنسانية، ولكن لم تكن فلسطين قوية كاليوم وكذلك لم تكن إسرائيل ضعيفة كاليوم بفعل تداعيات السابع من أكتوبر، فإضافة إلى الإذلال الذي لحق بالجيش الإسرائيلي حيث ثبت أنه غير قادر على حماية إسرائيل دون دعم الغرب الرسمي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، بحاملات الطائرات والجسور الجوية التي تنقل العتاد على مدار الساعة لإسرائيل، ناهيك عن الحماية السياسية التي وفرتها في مجلس الأمن الدولي ومنعته بالفيتو من اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، وفي خضم ذلك أصبحت إسرائيل دولة مارقة منبوذة في العالم تتظاهر ضدها الشعوب بكل فئاتها في كل مدن وعواصم وجامعات العالم.
كل هذه التداعيات نفسها هي في الحقيقة أوراق قوة لم يسبق أن كانت بيد الفلسطينيين، إلا أن صمود المقاتلين الفلسطينيين في غزة وإدارتهم الدقيقة والناجحة للمعركة، واستمرار دعمهم من الجبهات الأخرى في الضفة الغربية والقدس ولبنان واليمن، أدى إلى إطالة أمد الحرب دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها المعلنة.
إلا أن حجم التضحيات الجسام غير المسبوقة لأهلنا في غزة سواء كان في أعداد الشهداء والجرحى أو المباني السكنية والتعليمية والصحية والدينية غيّر وجه العالم ووضع فلسطين في مقدمة الأولويات في مختلف أنحاء العالم، ونتائج هذا الصمود وتلك التضحيات لم تصب في مصلحة فصيل أو جماعة إنما أضيفت إلى رصيد فلسطين وشعبها.
للمرة الثانية منذ ١٩٣٦ تتقدم فلسطين ومعها العالم أجمع مطالباً بتمكين شعبها من ممارسة حقوقه غير القابلة للتصرف بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة فوق ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية.
إن الصراع على أرض فلسطين، ليس صراعاً بين الشعب الفلسطيني وإسرائيل كقوة احتلال، ولكنه صراع إقليمي ودولي بامتياز، لذلك فحل هذا الصراع أو الاستمرار في إدارته هو في المقام الأول بيد البعد الدولي متمثلاً بالغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً بيد البعد الإقليمي متمثلاً بالمحيط العربي الذي عليه أن يقرر:
إما أن يتماسك مع الفلسطيني المستمر في مقاومته ومُصر على الصمود في أرضه وسيدفع ثمن ذلك مهما بلغت التضحيات، ويدعم الحل المعتمد على الشرعية الدولية كحل تسووي للصراع، القاضي بالإقامة الفعلية للدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران العام ٦٧، أو يكرر ما حصل العام ١٩٣٦ ويجهض النضال الفلسطيني بالتوافق مع البعد الدولي وبعض النخب الفلسطينية على حل تجميلي لا يتعدى الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون جغرافيا، والذي سيكون بمثابة أوسلو ثانية، وهذا يعني استمرار الصراع واستمرار البعد الدولي في إدارته.
ومن الطبيعي في هذه الحالة استمرار المقاومة الفلسطينية. وهذا يعني استمرار حالة انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها.
إن التضحيات الجسام غيّرت الكثير من المفاهيم في العالم لصالح قضية فلسطين وشعبها، وهي أوراق قوة بيد القيادات الفلسطينية والعربية، وهذا يفترض أن البعد الدولي مُجبر على أخذ هذا التغيير بعين الاعتبار خاصة مع حراك الأجيال الجديدة في العالم ممثلة بالحركة الطلابية في جميع مدن وعواصم العالم وخاصة في أوروبا وأميركا، حيث تعتصم وتتظاهر ضد حرب الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة، ودعماً لإقامة الدولة الفلسطينية.
ما الذي يمنع النخب الفلسطينية وقادة دول الإقليم أن تتسلح بهذه الأوراق، وتضع قرارات الشرعية الدولية كحد أدنى لحل الصراع، فتريح وتستريح، وبدلاً من استمرار التوتر، يسود المنطقة بدولها، الأمن والاستقرار، وبدلاً من دفع تكلفة استمرار الصراع، تنطلق عملية جادة لإعادة تأهيل المنطقة وتنميتها وتطورها.
قد يقول البعض إن الولايات المتحدة الأميركية لن تستجيب، وأنا أقول، إنها ستحاول ألا تستجيب وذلك طبقاً لمدى صلابة ووحدة أو ليونة موقف دول الإقليم.
الولايات المتحدة تعلم علم اليقين أن المصالح الأميركية هي التي تقرر الموقف الذي يجب اتخاذه، وكما نعلم فإنها احتلت أفغانستان لطرد طالبان، ولكنها بعد عشرين سنة من الاحتلال قامت مرة أخرى بتسليم أفغانستان إلى حركة طالبان وتخلت عن عملائها الذين عملوا معها طيلة السنوات العشرين.
وكذلك فإن الولايات المتحدة تعلم أن حل الدولتين يضمن بقاء إسرائيل، بينما استمرار الصراع، أخذاً بعين الاعتبار المتغيرات المحلية (فلسطينياً إسرائيلياً) والإقليمية والدولية بعد السابع من أكتوبر، سيُبقي على الاحتمالات كافة وأهمها احتمال الدولة الواحدة الذي سيكون فيها العاملان الديموغرافي والزمني لصالح الشعب الفلسطيني.
أعتقد، أن مجموعة من الدول العربية الأكثر انشغالاً بالقضية الفلسطينية في هذه المرحلة وهي: فلسطين ممثلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وجمهورية مصر العربية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة العربية السعودية، والمملكة المغربية، ودولة قطر، ودولة الإمارات العربية المتحدة، يمكن لها أن تتوافق على تفاصيل الحد الأدنى للحل، وهو إقامة الدولة الفلسطينية المتواصلة الأراضي (إزالة المستوطنات التي تعيق هذا التواصل، وممر آمن بين غزة والضفة الغربية)، وعاصمتها القدس (كعاصمة للدولتين) أو القدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين، وتبادل أراضٍ.

وضمان تنفيذ الحل يتطلب انسحاب الجيش الإسرائيلي من أراضي الدولة الفلسطينية المتواصلة الأراضي، على أن يتم ضمان أمن إسرائيل بعد انسحاب جيشها من خلال قوات دولية أو عربية تنتشر على الحدود المرسومة للدولتين، ويتزامن مع ذلك قرار من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بحل نفسها لصالح دولة فلسطين، وحل جميع الفصائل الفلسطينية وجميع أذرعها العسكرية، وحصر وجود السلاح بيد الأجهزة الأمنية الرسمية للدولة الفلسطينية، وإدماج من يرغب من العسكريين في هذه الأجهزة، وفتح المجال أمام الفصائل للعمل السياسي من خلال تشكيل أحزاب تراعي مستقبل المنطقة على أساس المصالحة التاريخية، ووجود دولتي فلسطين وإسرائيل، وتتعهد الدول العربية بمساعدة المجتمع الدولي لإعادة إعمار فلسطين، على أن تساهم دولة فلسطين بذلك بعد تمكينها من استغلال مصادر الطاقة المكتشفة في الضفة الغربية وغزة.
تستطيع هذه الدول العربية ومعها فلسطين، أن تبلغ الولايات المتحدة الأميركية، أن هذا التصور هو الحد الأدنى الذي لا يمكن تجاوزه، وأن علاقاتها مع إسرائيل ستتحرك سلباً أو إيجاباً (سواء كان تطبيعاً يمكن أن يحصل أو تطبيعاً حصل بالفعل)، وتطالبها وتطالب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بإصدار قرار أممي من مجلس الأمن استناداً إلى الفصل السابع يتضمن هذه البنود المقترحة.

أمام موقف عربي موحد، مع الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات والحقائق في ساحة القتال حيث فشلت إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها طيلة ما يزيد على الأشهر السبعة، إضافة إلي خسائرها غير المسبوقة في الأفراد والعتاد والاقتصاد منذ العام ١٩٤٨واستمرار صمود المقاومة الفلسطينية، واستمرار قدرتها على القتال كما في الأيام الأولى للحرب، أمام كل ذلك أعتقد أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، ستختار مصالحها، ومن ضمنها ضمان بقاء دولة إسرائيل، حتى لو لم يعجب ذلك حكام دولة إسرائيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى