أمريكا

الولايات المتحدة هزمت نفسها

أخلاقيات النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت هي العمود الفقري أيضاً لكل المواثيق والمعاهدات الدولية التي نشأت على أساسها منظمات ترعى حقوق الإنسان، وتسن القوانين ضد سياسات التمييز العنصري.

منذ أن شاع الانطباع بأن الولايات المتحدة تقود العالم على أساس “معايير مزدوجة”، سقطت قيادتها الأخلاقية للعالم، وانهار واحدٌ من أهم أركان “النظام الدولي القائم على القواعد”. بل إن النظام الدولي القائم على القانون والمواثيق والمعاهدات وميثاق الأمم المتحدة، سقط أيضاً، عندما سقطت مكانته في أعين المعنيين به.

وما كان عموداً فقرياً للسياسات والأدوار والمصالح، أصبح هلاماً لا أحد يعرف ما هي قواعده أو أخلاقياته.

ثم صدّق أو لا تصدق، فإن هذا هو ما دفع روسيا الى غزو أوكرانيا. وفر لها التبرير، بمقدار ما كان سخرية تامة من “النظام الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة. ففي عالم لا يضبطه ضابط أخلاقي ولا تحترم بعض قواه العظمى القانون الذي وضعته بنفسها، فإن شيئاً لا يمكنه أن يحول دون أن تُلاحق القوى الأخرى مصالحها بالمنطق نفسه.

كان يجدر التساؤل ابتداءً من 24 شباط (فبراير) 2022: ماذا بقي من النظام الدولي، أو كيف يمكن إنقاذه؟ ولكن الجواب تأخر، حتى وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام فضيحة أعنف في غزة.

“النظام الدولي القائم على القواعد” كان يقصد القول إنه كلما عجز مجلس الأمن الدولي عن التوافق، فإن قواعد بديلة هي التي يمكنها أن تحل محل “القانون الدولي”. وبما أن هذا القانون لم يكفل التلاؤم الدائم والشامل مع قيم الليبرالية، لا سيما لجهة احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية والعدالة والمساواة والحرية، فقد توفر للولايات المتحدة السبيل لكي تجعل من “القواعد” بديلاً.

الطابع الأخلاقي لهذه القواعد هو عمودها الفقري، وهو الذي أتاح للولايات المتحدة أن تبدو كأنها تجلس على الضفة المعنوية العليا للعلاقات بين الدول. فتجيز لنفسها أن ترسل قواتها لتغزو أو تتدخل أو تبني قواعد عسكرية أو تمارس ضغوطاً على حكومات أو تقلبها باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان.

وفي الواقع، فإن أخلاقيات النظام الدولي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت هي العمود الفقري أيضاً لكل المواثيق والمعاهدات الدولية التي نشأت على أساسها منظمات ترعى حقوق الإنسان، وتسن القوانين ضد سياسات التمييز العنصري، وتحمي الحريات الفردية، إلى أن وصل الأمر بالعالم إلى أن أصبح مشغولاً أيضاً بحقوق الحيوان وحماية المناخ وما إذا كانت الشرطة السويدية أنقذت فراخ بطّة من الغرق في المجاري.

الانقلاب الدراماتيكي الذي وقع في غزة، تعارض مع القانون الدولي وتعارض مع القواعد، وأغرق البطة، ودفن فراخها تحت الأنقاض ليثبت أن أخلاقيات العالم الغربي وقواعده لا شيء، سوى أنها مسخرة.

ولكن ما هي تلك القواعد؟ إليك بعضها:

ـ لا يجوز لروسيا أن تضم أراضي من أوكرانيا، لأنها دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة وسيادتها على أراضيها محمية بموجب ميثاق الأمم المتحدة. ولكن يجوز لإسرائيل أن تضم أراضي من سوريا، رغم أنها “دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة وسيادتها على أراضيها محمية بموجب ميثاق الأمم المتحدة”.

ـ لا يجوز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن ينقل أطفالاً أوكرانيين من ساحة الحرب إلى روسيا، فيُحكام ويصبح مطلوباً للعدالة الدولية، ولكن يجوز لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يقتل عشرة أضعاف أولئك الأطفال في غزة. ويرفع الكونغرس عقيرته كلها ضد محاولات توجيه اتهامات لإسرائيل من جانب المحكمة الجنائية الدولية.

ـ لا يجوز للصين أن تنتهك حقوق مواطنيها الأيغور، ولكن يجوز لإسرائيل أن تقيم نظاماً للتمييز العنصري ضد مواطنيها من “عرب 48”.

ـ لا يجوز لأي دولة في العالم أن تمارس انتهاكات لحقوق الإنسان، ولكن يجوز لإسرائيل أن تمارس أعمالاً ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية في غزة.

ـ لا يجوز للصين وكوريا الشمالية وإيران أن تدعم روسيا بالسلاح في حربها ضد أوكرانيا، ولكن يجوز للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أن تمد إسرائيل بأعتى الأسلحة في حربها ضد قطاع شبه أعزل، حتى بلغ مستوى الدمار الشامل فيه ما يحتاج إلى 80 عاماً لإعادة البناء.

هذه هي “القواعد”! وعندما تطلب محكمة العدل الدولية من إسرائيل أن تتخذ تدابير لمنع الإبادة الجماعية، فإن إسرائيل، تحت حماية “النظام الدولي القائم على القواعد”، تستطيع أن تواصل هدم المنازل والمستشفيات ومراكز إيواء النازحين، وتقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، وتقتل أفراداً عُزّلاً وتدفن جثثهم بالجرافات، على مرأى العالم وسمعه.

لم يحدث من قبل أن خسرت الولايات المتحدة قيادتها الأخلاقية للعالم مثلما يحدث الآن. النموذج القائم على حماية الحقوق والحريات الفردية ينهار في الولايات المتحدة نفسها، عندما أصبحت احتجاجات سلمية، لا تتجاوز رفع مطالب بوقف الحرب، مبرراً لاقتحام الشرطة الحرم الجامعي واعتقال الآلاف من الطلاب في العشرات من الجامعات الأميركية باتهامات مزيفة لفرض الصمت عن توجيه الانتقادات لإسرائيل.

ماذا بقي من النظام الدولي نفسه، دَعْ عنكَ “القواعد”؟

لقد كان من الجائز تماماً القول إن الدعوات إلى إقامة “نظام دولي جديد” تتجاهل واقع أن النظام الاقتصادي الدولي هو الذي يوفر السند لقيادة الولايات المتحدة.
روسيا التي لا يتجاوز ناتجها الإجمالي ناتجَ بلد أوروبي واحد مثل ألمانيا، لا تملك الكثير من “الأدوات” لفرض إرادة دولية مضادة.
هذا صحيح. صحيح أيضاً، أن النظام الدولي هو ليس ما يفعله البيت الأبيض أو ما يفرضه من سياسات وأعمال ابتزاز وتهديد وتلويح بالعقوبات، بل ما تفعله مؤسسات تقودها الولايات المتحدة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأنظمة العلاقات بين المصارف والمؤسسات الفرعية الأخرى المعنية بالتنمية والتعاون الدولي، التي تهيمن على فرص التمويل والاستثمارات، وصولاً إلى الشركات الأميركية نفسها التي تسيطر على قطاعات كبرى من الأسواق الدولية.

لا يبدو أن هذا النفوذ “المطلق” قابل للتصدع. وبالتأكيد، ليس لأن انقلاباً عسكرياً في النيجر يمكنه أن يطرد القوات الأميركية من البلاد، أو لأن ميليشيات مسلحة يمكنها أن تقصف القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا.

هناك عاملان آخران يكفلان التصدع.
الأول، هو أن العلاقات ذات الطبيعة البراغماتية، هي التي أصبحت العصب الرئيسي للتعايش مع الولايات المتحدة ومعاييرها المزدوجة. مصر على سبيل المثال، تحتاج تمويلات تدعم الولايات المتحدة تقديمها، ولكنها تجرؤ على أن تبني جسوراً للمصالح مع منافسين دوليين كبار مثل روسيا والصين. تجرؤ أيضاً على أن تقول: لا، في ما يتصل بالتوازنات الاستراتيجية، فتقف على الحياد حيال حرب يتعلق عليها مصير النظام الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا في أوكرانيا.

الثاني، هو أن أنظمة التعاون الإقليمي توفر مجالات للتمويل والاستثمارات البديلة التي تخرج عن أطر النفوذ التقليدية للمؤسسات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة. ومن بينها أنظمة التبادل التجاري التي تحيد عن الدولار.

في لحظة ما، لصعود النظام الدولي الراهن، بدا أن مفهوم “السيادة” قد أصبح موضوعاً لشكوك جديرة بالاعتبار.

الآن، وهذا عامل ثالث، فإن واحداً من أهم انهيارات “النظام الدولي القائم على القواعد”، هو أن “السيادة” عادت لتقوى وتتعزز وتبحث عن خيارات وبدائل.

لا تستطيع أن تهزم قيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي، ولكن ما حصل هو أن الولايات المتحدة هزمت نفسها عندما تحولت إلى قوة غطرسة بلا عمود فقري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى