حماس

لعبة القمار بين «حماس» ونتنياهو

استكمال الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، سوف يُنهي معركة غزة، لكنّ أموراً ثلاثة لن تتوقف: أولها الحرب طويلة الأمد التي تخوضها الصهيونية ضد شعب فلسطين، وثانيها مقاومة هذا الشعب الأبي للاحتلال والاضطهاد الصهيونيين، وآخرها المعركة السياسية حول مصير غزة

إن مشهد الغزاويين الفرِحين المهلّلين يوم الإثنين الماضي لإعلان ««حماس»» قبولها بوقف النار بناء على ما وصفته بأنه المقترح المصري ـ القطري، إنما كان في الحقيقة مشهداً محزناً. ذلك أنه عبّر عن درجة البؤس التي أدركها أهل غزة بعد سبعة أشهر من بدء حرب الإبادة التي شنّتها عليهم الدولة الصهيونية، وشملت التدمير والتهجير والتجويع، وهو بؤس من النوع الفائق الذي يؤدّي بمن يعاني منه إلى التعلّق بحبال الهواء. فكان المشهد محزناً لأن ما صرّح به خليل الحية، نائب رئيس «حماس» في غزة، مفسرّاً ما وافقت عليه الحركة، لم يترك مجالاً للأمل في أن الاتفاق سوف يتم، اللهمّ سوى بإسقاط الرغبات على الواقع.

فلو قبلت الدولة الصهيونية بما فسّره مسؤول الحركة، لشكّل الأمر بكل بساطة إقراراً منها بهزيمة نكراء، إذ نصّ المقترح الذي قبلت به «حماس» على ثلاث مراحل، تتضمّن على حد قوله ليس وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار وتبادلاً للأسرى بين الطرفين، بل أيضاً وقفاً نهائياً للحرب وانسحاباً كاملاً للجيش الإسرائيلي من القطاع، لا بل إنهاءً للحصار المفروض عليه منذ أن استولت الحركة على زمام السلطة فيه قبل ما يناهز 17 عاماً. وبالطبع، لا يمكن بتاتاً للدولة الصهيونية أن تقبل بمثل هذه الشروط، ولا شكّ في أن «حماس» ليست من السذاجة والتفكير السحري إلى حدّ الإيمان بأن الموقف الذي أعلنته سوف يؤدّي إلى هدنة.

هذا يوحي بأن الإعلان كان يرمي في الحقيقة إلى غايتين: غاية ثانوية هي رفع العتب عن «حماس» في نظر أهل غزة المتعطّشين إلى هدنة مصحوبة بتسريع دخول المساعدات، بحيث يستطيعون التقاط أنفاسهم ولمّ شملهم ودفن موتاهم وتضميد جراحهم. فإذ بالحركة تقول لهم بعد طول انتظار إنها قبلت بالهدنة، لكنّ إسرائيل هي التي ترفضها. أما الغاية الأخرى والرئيسية وراء الإعلان، فتتعلّق بلعبة القمار الجارية بين «حماس» وبنيامين نتنياهو.

فمن المعروف أن هذا الأخير واقعٌ بين نارين في السياسة الداخلية الإسرائيلية: نار الداعين إلى منح الأولوية للإفراج عن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، وفي طليعتهم أهل المحتجزين بالطبع، ونار الرافضين لأي هدنة والمصرّين على مواصلة الحرب بلا انقطاع، وفي طليعتهم وزراء أقصى اليمين الصهيوني الأكثر تطرّفاً. هذا والضغط الأعظم الذي يتعرّض له نتنياهو إنما هو الآتي من واشنطن والذي يلتقي مع أماني أهل المحتجزين الإسرائيليين في سعيه لهدنة «إنسانية» تدوم بضعة أسابيع وتسمح لإدارة بايدن بأن تدّعي أنها توّاقة إلى السلام وحريصة على المدنيين، بعد أن كانت ولا تزال شريكة كاملة المسؤولية في حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل والتي ما كانت لتستطيع خوضها لولا الدعم العسكري الأمريكي.

وقد رأى نتنياهو أن يتملّص من الحرَج بموافقة تكتيكية على وقف لإطلاق النار لبضعة أسابيع وعلى شروط لتبادل المحتجزين اعتبرتها واشنطن بلسان وزير خارجيتها «سخيّة للغاية». كان ذلك قبل أيام قليلة، وقد أضاف أنتوني بلينكن أن الكرة باتت في ملعب «حماس» وأن هذه الأخيرة ستتحمل وحدها مسؤولية مواصلة الحرب لو رفضت المقترح. شكّل ذلك إحراجاً للحركة، إزاء أهل غزة كما إزاء الرأي العام العالمي، لأنها تعلم علماً يقيناً أن الحكومة الصهيونية مصرّة على استكمال احتلال جيشها للقطاع باجتياحه مدينة رفح. ومؤدّى ذلك أن احتلال رفح إثر هدنة مؤقتة سيقضي على قدرة الحركة على مواصلة التفاوض لفقدانها ما تستطيع أن تفاوض به. وهذا يعني، بكلام آخر، أن المفاوضات الراهنة هي الورقة الأخيرة بيدها.

لذا ردّت «حماس» على نتنياهو بمناورة مضادة، فأعلنت بضجة إعلامية كبيرة قبولها بوقف النار بناء على مقترح شديد الاختلاف عمّا كان نتنياهو قد وافق عليه، بحيث تعيد الكرة إلى ملعبه مدركة أنه سوف يرفض مقترحها. بيد أن اللعبة خطرة، إذ إنها لم تحرج نتنياهو حقاً، لأن كافة أجنحة نخبة السلطة الصهيونية تشاطره رفض المقترح. بل عزّز الأمر الإجماع الصهيوني على استكمال احتلال غزة، بحيث قرّرت حكومة الحرب الإسرائيلية شروع جيشها في اجتياح رفح بدءاً من الشرق وبوابة العبور إلى سيناء، كما حصل بعد إعلان «حماس» بساعات. وفي الوقت نفسه، في إطار لعبة القمار ذاتها، أعلنت حكومة الحرب إرسال مفاوضين ممثلين لها إلى القاهرة تأكيداً لحسن نواياها أمام واشنطن.

لقد بدأت الحلقة الأخيرة من اجتياح غزة. وقد نوهّنا قبل أسبوعين بما أشارت به بعض مصادر الإعلام الأمريكي والإسرائيلي من أن بايدن أعطى نتنياهو الضوء الأخضر للهجوم على رفح، مقابل امتناع إسرائيل عن تسديد ضربة كبرى لإيران ردّاً على وابل الصواريخ التي أطلقتها عليها هذه الأخيرة («الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران» 23/4/2024). والحال أن لإدارة بايدن قسطها في لعبة القمار والاحتيال على الآخرين: فهي تحتال على الرأي العام الأمريكي والعالمي بتظاهرها برفض الهجوم على رفح لأسباب «إنسانية» بينما يضيف دائماً الناطقون باسمها، وبصوت خافت، أن معارضتها للاجتياح هي فقط «في الظروف الراهنة، ما دامت شروط تفادي مجزرة كبرى بالمدنيين لم تكتمل».

وقد عملت الدولة الصهيونية على تحقيق الشروط التي تطلبها واشنطن، فأعلنت «منطقة إنسانية آمنة موسّعة» إلى الشرق والشمال من منطقة المواصي الواقعة على شاطئ القطاع الجنوبي، والتي أعلنها الجيش الإسرائيلي «منطقة إنسانية آمنة» في نهاية العام المنصرم، داعياً النازحين الغزاويين إلى الاحتشاد فيها. وتشمل المنطقة الموسّعة الشطر الغربي من خان يونس شرقي المواصي، ودير البلح إلى شمالها. فتنوي إسرائيل دفع أكبر عدد ممكن من الغزاويين إلى الانتقال تحت رقابتها من رفح إلى المنطقة التي عيّنتها قبل استكمال اجتياحها لرفح ومحيطها، وذلك إرضاءً لواشنطن. وإذ يستغرق الأمر بعض الوقت، سوف يستمر نتنياهو خلال هذا الوقت بلعبة القمار في شأن مواطنيه المحتجزين لدى «حماس».

أما استكمال الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، فسوف يُنهي معركة غزة، لكنّ أموراً ثلاثة لن تتوقف: أولها الحرب طويلة الأمد التي تخوضها الصهيونية ضد شعب فلسطين، وثانيها مقاومة هذا الشعب الأبي للاحتلال والاضطهاد الصهيونيين، وآخرها المعركة السياسية حول مصير غزة التي، من جهة، يتصارع نتنياهو فيها مع واشنطن حلفائها العرب، ومن جهة أخرى، تدور رحاها في صفوف نخبة السلطة الصهيونية ذاتها. هذا ويلتقي جميع المذكورين على نيتهم تصفية القضية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى