السودان

تحت وطأة الحرب.. مطابخ الأمل تُطعم جراح السودان 

أدركُ تمامًا تعقيدات المشهد السوداني، وصعوبة فصل الدين عن السياسة في هذا البلد، لكن أعتقد أنّ الرحمة والإطعام واجبان إنسانيان لا ينبغي ربطهما بأيّة أجندات سياسية، ففي زمنٍ تنهار فيه الأخلاق وتنتشر فيه الكراهية، تُصبحُ أعمال الخير مثل شعاعٍ من الأمل يُنيرُ دروبَ المُحتاجين ويُذكّرُنا بإنسانيتنا.

عامٌ مرّ على السودان وشعبه يئنّ تحت وطأة حربٍ لئيمة ، حربٌ لا تعرف رحمة ، حصدت آلاف الأرواح ، وشردت الملايين ، وجعلت من أرض “سلة غذاء العالم” قاعًا يبابًا ، وفي خضمّ هذه المأساة ، تشرق بصيص أملٍ من بين الركام ، تُجسّدها مطابخُ جماعيةٌ تُقاوم ببسالةٍ نذرة الطعام وشحّ الإمكانيات ، لتُطعم جراح شعبٍ لم يرضخ للظلم والقهر، ففي العاصمة الخرطوم ، وسّعت مطابخُ الخير دائرة عطائها ، لتُصبح ملاذًا لآلاف المدنيين الذين صمدوا في بيوتهم، رافضين النزوح والهروب ، لتُناضلُ هذه المطابخُ ضدّ شحّ التمويل ، فالمواردُ تتناقصُ بينما الحاجةُ تتزايدُ وفي لجان الأحياء.

يُناشدُ ناشطون على إدارة مطبخٍ جماعيٍّ بمدّ يد العون ، فالتحويلاتُ الماليةُ باتت شحيحةً ، والطعامُ المقدمُ للمواطنينِ لا يُسدّ رمقَ جوعهم ، ومع ذلك ، تُثبتُ تجربةُ “غرف الطوارئ” قدرةَ السودانيين على التكاتفِ والصمود ، فهُمْ يُساهمونَ بجهودهم الذاتيةِ في توفيرِ الطعامِ لآلافِ المدنيين ، مؤكّدين أنّ الأملَ لم يمتْ بعدُ ، لتُحييّ عودةُ “تكايا الطعام” ذكرياتٍ عريقةٍ من الكرمِ والعطاءِ ، ففي رحابِها يُطعمُ مئاتُ الآلافِ من الذين لم يُفارقوا منازلهم ، رافضين الاستسلامِ لظلمِ الحربِ وبؤسها ، ففي مدينةِ الخرطوم ، التي بقي بها فقط أقل من ثلاثةِ ملايينَ نسمةٍ ، حيث تُعاني الأحياءُ الشرقيةُ ، كـ “الرياض” و”الطائف” و”المنشية” و”أركويت”، من ويلاتِ النزوحِ بشكلٍ خاصّ.

وإلى جانبِ نقصِ الغذاءِ ، تُهدّدُ انقطاعاتُ الكهرباءِ والمياهِ والاتصالاتِ عملَ المطابخِ الجماعيةِ ، ممّا يُضاعفُ من صعوبةِ مهمّتها الإنسانيةِ النبيلةِ ، لكنّ عزيمةَ القائمينَ على هذهِ المطابخِ لا تلينُ ، فبإصرارهم وعزيمتهم ، يُواصلونَ العملَ ، مستخدمينَ خدمةَ “ستارلنك” لتلقيِ التحويلاتِ الماليةِ واستمرارِ تقديمِ المساعدةِ للمحتاجين ، ففي خضمّ هذهِ الأزمةِ ، تُضيءُ مطابخُ الأملِ شعلةَ الصمودِ والكرامةِ في السودان ، وتُثبتُ أنّ روحَ العطاءِ والإنسانيةِ لا يمكنُ أن تُقهرَ، وأنّ غدًا أفضلَ ينتظرُ هذا البلدَ العريقَ وشعبَهُ الصابرَ.

هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي:- قبل شهر تقريبًا، أدرنا نقاش حادّ في مجموعة واتساب تضمّ زملاء لي حول تقرير للزميل عبدالباقي الظافر على موقع “الجزيرة نت” بعنوان: “شيخ الأمين السوداني.. زعيم صوفي أم عميل مخابرات؟”، حيث تناول التقرير قصة الشيخ الأمين عمر الأمين، الزعيم الصوفي السوداني المثير للجدل ، وفتحه مسيده في أم درمان لإطعام المحتاجين من سكان الخرطوم، وذلك في ظلّ الحرب الأهلية اللعينة التي عصفت بالسودان لأكثر من عام، حارقة الأخضر واليابس، قاتلة الآلاف، وشردت الملايين.

وبينما هاجم زملائي الشيخ الأمين بشدة، شعرتُ بواجبٍ أخلاقي يدفعني للدفاع عنه، على الرغم من اختلافاتنا الكثيرة، فكيف لنا أن نُنكِر فضله في إطعام الجوعى في زمنٍ كهذا؟ ألم يَقُل الله تعالى في سورة الإنسان آية 8 “وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا”؟ صحيحٌ أن مسيد الشيخ يرتاده أفراد من مليشيا الدعم السريع المتمردة على الجيش السوداني، لكن هل يُعاقب المرء على فعلٍ خيرٍ بسبب توجهات سياسية لبعض روّاد المكان؟ ألا يجوز لنا أن نفصل بين العمل الإنساني والنوايا السياسية؟ أدركُ تمامًا تعقيدات المشهد السوداني، وصعوبة فصل الدين عن السياسة في هذا البلد، لكن أعتقد أنّ الرحمة والإطعام واجبان إنسانيان لا ينبغي ربطهما بأيّة أجندات سياسية، ففي زمنٍ تنهار فيه الأخلاق وتنتشر فيه الكراهية، تُصبحُ أعمال الخير مثل شعاعٍ من الأمل يُنيرُ دروبَ المُحتاجين ويُذكّرُنا بإنسانيتنا، قد أختلفُ مع الشيخ الأمين في كثير من الأمور، لكن لا يمكنني أن أُنكر فضله في إطعام الجوعى في زمنٍ عصيبٍ كهذا وأُدركُ أنّ موقفي قد لا يُرضي الجميع ، لكنّني أؤمنُ بأنّ كلمة الحقّ واجبةٌ ، وأنّ الرحمة والإنسانية يجب أن تُعلو فوق أيّ صراعاتٍ سياسية.. #اوقفوا_الحرب Stop_The_War وعلى قول:- “جدتي دقي يا مزيكا !!”.

خروج :- لا للنفاق (رفض تصريحات الخارجية السودانية الداعمة للسعودية بطريقة “حمادة دة حاجة تانية خالص”!!؟؟) بعد عام من الحرب اللعينة ، وندوب على جسد السودان، ودماء تسيل على أراضيه ، وملايين المهجرين ، وخراب يطال الأخضر واليابس ، وكل ذلك تحت سماء سوداء تلطخها أطماع جشعة وصراعات دامية ، وفي خضم هذا المشهد المأساوي ، يطل علينا موقف غريب من قبل الحكومة السودانية ، موقف ينم عن نفاق لا يليق بتاريخ السودان العريق وشعبه الأبي، فكيف يمكن للحكومة السودانية أن تُنافق المملكة العربية السعودية ، حليف مليشيات الدعم السريع المتمردة على الجيش، حليف من استخدم مرتزقة هذه المليشيات في حرب اليمن؟.

فجأة، تصبح العلاقات بين السودان والسعودية “ضاربة في الجذور” حسب بيان وزارة الخارجية السودانية وتُرفض أي “إساءة” للقيادة السعودية ، وكأنّ آلام الشعب السوداني وجراحه لا تستحق حتى ذكرًا ، يُنكر البيان أي إساءة من قبل الشعب السوداني للسعودية ، وكأنّ لسان الشعب قد جُمد ، وكأنّ عيون السودانيين قد أُغمضت عن دعم السعودية للمليشيات المتمردة، وعن تدخلها في شؤون السودان الداخلية ، وتُؤكّد الخارجية السودانية على “خصوصية” العلاقات مع السعودية ناسيةً أنّ هذه “الخصوصية” تُبنى على ظلمٍ فادحٍ للشعب السوداني، وعلى دعمٍ مُخجلٍ للمليشيات التي تُمزّق الوطن.

وتُذكّرنا الخارجية بأنّ السعودية هي “سادنة الحرمين الشريفين”، وكأنّ هذا الأمر يُبرّر دعمها للمليشيات وتدخلها في شؤون السودان ، ولكن ، يا وزارة الخارجية ، أين كرامة السودان؟ أين شرف شعبه؟ أين تاريخه العريق؟ كيف يمكنكم أن تُنافقوا دولةً تدعم من يُحاربكم ويُمزّق وطنكم؟ كيف يمكنكم أن تتجاهلوا آلام شعبكم ومعاناته؟ لا لا ، يا وزارة الخارجية ، لا يمكننا قبول هذا النفاق! لا يمكننا أن نسكت على هذا الظلم! الشعب السوداني يرفض هذا التواطؤ! يرفض دعم المليشيات! يرفض التدخل الخارجي! إنّ السودان بلدٌ عريقٌ وشعبٌ أبيٌ ، لن يُسكت على الظلم ، ولن يُنافق من يُحاربه ويُمزّق وطنه ، كفى نفاقًا! كفى ظلمًا! كفى تدخلًا! السودان للسودانيين!.. ولن أزيد،، والسلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى