لم يبدأ تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني من السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلّا أنه كان اليوم الذي سُجلت فيه الضربة العسكرية الكبرى، والتهديد الوجودي الأخطر منذ إقامة “إسرائيل” سنة 1948؛ حيث إن الهجوم شُن داخل “إسرائيل” نفسها، وليس في المناطق المحتلة سنة 1967، كما في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973؛ وبذلك شُجّت “إسرائيل” في وجهها شجًّا عميقًا، لن يُمحى من الذاكرة، مهما حاولت وحاول داعموها ذلك!
كما أن غزة دفعت أكلافًا كبيرة، بكارثة إنسانية تعد من الأكبر في العصر الحديث، وما لحقها من دمار شامل وخسائر، في حرب كان أغلب ضحاياها من الأطفال والنساء، وبذلك تعد غزة أكثر المناطق المنكوبة في العالم، زيادة على قضمٍ كبير في قدرات المقاومة.
اقرأ أيضا.. هل من طريقة أخرى مع إسرائيل؟
الواقع أن تفاصيل العدوان أكبر من أن نحصيها، لكن المهم هنا هو أن نسأل: هل ثمة مكاسب للمقاومة الفلسطينية من طوفان الأقصى؟ هنا نورد أهمها في عشر نقاط:
1- طوفان الأقصى.. أول محاولة لتحرير فلسطين
منذ إقامة “إسرائيل”، اندلعت عدة ثورات وانتفاضات وهبّات فلسطينية، إلا أن طوفان الأقصى كان حدثًا استثنائيًّا؛ فقد كان أكبر ضربة عسكرية في تاريخ الصراع العربي مع الصهيونية.
صحيح أنه لم يُحرر أي جزءٍ من فلسطين بهذه المحاولة -كما لم يُعرف أن شعبًا حرر أرضه من المحاولة الأولى- لكنه فتح الطريق، وأوضح المسار لذلك. زيادة على أن الشعب الفلسطيني يحارب نظام استعمار استيطاني إحلالي مركب، وليس استعمارًا تقليديًّا؛ وهذا يعني أنه من أصعب أنظمة الاستعمار عبر التاريخ.
فشلت “إسرائيل” في تحقيق أي هدف من الأهداف التي رفعتها في بداية الحرب تحت تأثير الإهانة وسكرة القوة، إذ رفعت هدف القضاء على حركة حماس وحكمها في القطاع، وانتهت الحرب ببقاء حماس وجناحها العسكري في صدارة المشهد الفلسطيني
2- فشل العقيدة الأمنية
شكّل طوفان الأقصى ضربة كبيرة للعقيدة الأمنية الإسرائيلية، إذ يعد مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي: (الشاباك، الموساد، الاستخبارات العسكرية) أقوى منظومة استخبارات في الشرق الأوسط؛ ومع ذلك، فشل هذا المجتمع في التنبؤ بطوفان الأقصى فشلًا ذريعًا، بل ووقع في شراك المقاومة عبر خطة خداع محكمة، كما فشل بتقدير إمكانية صمود المقاومة لهذه المدة أمام الترسانة العسكرية الإسرائيلية؛ ما أدى إلى تراجع وتحطيم أسطورة “الأمن الإسرائيلي الذي لا يُقهر”.
ولا يزال الجدل بشأن المسؤولية عن الفشل بين مختلف المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية، ولاحقًا قد تطيح تبعاته برؤوس إسرائيلية كبيرة، أهمها نتنياهو نفسه.
3- قهر عسكري واضح
فشلت “إسرائيل”، التي تعد القوةً الإقليمية الأهم، في صدّ هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ما أتاح لمقاتلي حماس تنفيذ خطتهم الهجومية بكفاءة اعترف بها جنرالات في الجيش الإسرائيلي، فوصفوا ما حدث بأنه “أفضل هجوم كوماندوز في التاريخ”، كما فشلت في خطتها الهادفة إلى القضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس.
بل إن حماس قاتلت لما يزيد عن خمسة عشر شهرًا، وهي مدة تتجاوز مجموع حروب العرب مع “إسرائيل” كافة، وجرَّت “إسرائيل” إلى حرب طويلة، استنزفتها وأنهكتها إلى الحد الأقصى، ما دفع بالكاتب الإسرائيلي يائير أسولين إلى القول: “حتى إذا قمنا باحتلال كامل الشرق الأوسط، فلن ننتصر في الحرب على غزة”.
وعند القراءة في الخسائر الإسرائيلية، سنجد أن “إسرائيل” خسرت ما يقارب 350 جنديًّا في حرب 1967، كما خسرت حوالي 2600 جندي في حرب 1973، أما في طوفان الأقصى فقد خسرت “إسرائيل” حوالي 1837 قتيلًا، وأكثر من 23.000 مصاب، وفقًا للمصادر الإسرائيلية، هذا مع فارق القوة في القياس.
4- لا تحقيق لأي هدف!
فشلت “إسرائيل” في تحقيق أي هدف من الأهداف التي رفعتها في بداية الحرب تحت تأثير الإهانة وسكرة القوة، إذ رفعت هدف القضاء على حركة حماس وحكمها في القطاع، وانتهت الحرب ببقاء حماس وجناحها العسكري في صدارة المشهد الفلسطيني، كما بقيت الحاكم الفعلي داخل القطاع، رغم عدم التصريح العلني بذلك، ولم تتمكن “إسرائيل” من نزع رغبة القتال لدى مقاتلي حماس ولو للحظة واحدة!
هدف أي طرف في أي حرب هو أن يفرض إرادته على خصمه، وهو ما تجلى في فرض المقاومة لإرادتها في نهاية المطاف، فقد أُجبرت “إسرائيل” على المواقفة على سحب قواتها من قطاع غزة، وإطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين بصفقة لا سابقة لها في تاريخ الصراع
5- تراجع صورة “إسرائيل” في العالم
بدأ هذا التراجع من الفشل الذريع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وانتهى بصورة “إسرائيل” التي ترتكب الإبادة الجماعية بحق المدنيين من الأطفال والنساء، وهذا ما دفع بأنشطة واحتجاجات، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، وبذلك تصدرت وانتشرت الرواية الفلسطينية.
كما أن النجاح العسكري للمقاومة أثبت أن هناك شعبًا فلسطينيًّا مقاومًا متسمكًا بأرضه، وهو ما يصبّ في إضعاف الرواية الصهيونية، وتحولت “إسرائيل” إلى كيان منبوذ عالميًّا، وأُعيدت القضية الفلسطينية لتُطرح على أجندة الاهتمام الدولي.
6- العين على فلسطين التاريخية
عندما شنت حماس عملية طوفان الأقصى، لم تكن الأرض التي اجتاحها مقاتلوها ضمن الأراضي المحتلة سنة 1967، بل كانت داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، وهو ما يعني أن العقل الإستراتيجي لحماس والمقاومة الفلسطينية لا يتوقف عند خطوط 1967، بل فلسطين كلها!
7- تجذّر المقاومة في شعبها
ثبّت طوفان الأقصى معادلة أنه “لا يمكن القضاء على المقاومة”، إذ منح الأداء المذهل للمقاومة الثقة بجدواها. وفي السياق، أجرى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية برام الله بين مايو/ أيار وبداية يونيو/ حزيران 2024، استطلاعًا للرأي، كشف بأن التأييد لعملية طوفان الأقصى بلغ حوالي 73%، ورأى 82% منهم أن طوفان الأقصى وضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام، كما أعرب 66% منهم في الضفة، و59% من غزة، عن تفضيلهم بأن تكون حماس هي التي تحكم في “اليوم التالي”.
8- فرض الإرادة
هدف أي طرف في أي حرب هو أن يفرض إرادته على خصمه، وهو ما تجلى في فرض المقاومة لإرادتها في نهاية المطاف، فقد أُجبرت “إسرائيل” على المواقفة على سحب قواتها من قطاع غزة، وإطلاق سراح آلاف الأسرى الفلسطينيين بصفقة لا سابقة لها في تاريخ الصراع، علاوة عن إعادة إعمار ما دمره الاحتلال، كل هذا لم يكن مقبولًا لدى “إسرائيل”، لكن عزم المقاومة وثباتها، مكنها من فرض إرادتها في النهاية.
9- جبهات المقاومة وهوية الصراع
قبل طوفان الأقصى، كان حُلم اشتراك العرب في معركة واحدة ضد “إسرائيل” بعيدًا، بيد أن الطوفان رسّخ إمكان توحد العرب في معركة المصير، ونجح في إعادة الصراع إلى هويته صراعًا عربيًّا – إسرئيليًّا، وهذا ما حاول كثيرون حرفه عن مساره التاريخي، والواقع أن المعركة كانت اشتراكًا بين منظمات لا دولانية؛ إلا أنه يعد تحولًا إقليميًّا تاريخيًّا، من المرجح أن يكون له تأثير على مستقبل الصراع.
10- كشف حقيقة المواقف الغربية
يدرك كل عاقل أن “إسرائيل” هي مشروع غربي في الشرق، وأن إكسير الحياة لها مرتبط بالدعم الغربي، وخصوصًا الأميركي، فمنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، انهال الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي، وكأن المعركة مع الغرب نفسه! في موقف لا ريب أنه يكشف حقيقة الموقف الغربي.
ختامًا:
يمكننا القول، رغم أن ملحمة طوفان الأقصى لم تحقق كامل أهدافها، ورغم فاتورة الأكلاف الهائلة التي دفعها شعب غزة، فإنها انتصار تاريخي ضد نظام الاستعمار الصهيوني، فكان لا بد من حدث كبير يهز “إسرائيل” وداعميها، ويعيد طرح قضية فلسطين وشعبها المظلوم على أجندة العالم، ولن تظهر محصّلة هذا النصر سياسيًّا إلا في المستقبل؛ فانتصار المقاومة أنها لم تُهزم، انتصارها أنها بقيت وحطّمت أهداف خصمها، كما أن مهر الحرية كبير على مدار التاريخ، وما دام الاحتلال مستمرًا فالمقاومة مستمرة.