ساعات تفصلنا عن دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرئيل حيز التنفيذ. أسهم الموقف الدولي المتمثل في الإدارة الأمريكية الجديدة أسهاما كبيرا في إخراج الصفقة إلى الوجود. غير أن هذا لا ينفي أهمية عامل الزمن في الضغط على حركة حماس.
لقد استفاد الإسرائيليون من عناد الحركة طوال سنة ونصف من مواصلة القتال في غزة، وتنكرها للواقع. يمكن القول إن هدنة بين حركة حماس وإسرائيل، تعني أن الحركة، في هذا التوقيت من الحرب، لا تأتي من أجل تحصيل مكاسب تكتيكية، وإنما الجوهري في الأمر أن قبولها نابع من تقديرها لعملها الحربي بكامله، أو هذا ما يجب أن يكون.
كان العمل الحربي لحركة حماس يعاني من مشكلتين: الأولى التفوق العسكري والتقني الإسرائيلي، والأخرى، أن هذا التفوق، أدخل حماس في حالة من التشويش والإرباك والعجز، حال دون أية إمكانية للتأطير السياسي الواقعي لقوتها المقاتلة. وبالتالي لم يتوقف العمل العسكري لمقاتلي حماس على أي اعتبارات سياسية مقبولة.
هذا هو المأزف الذي وجدت حماس فيه، أعني عجز الحركة عن ترجمة عملها الحربي إلى مكاسب استراتيجية. وبالتالي ثمة تناقض في الاستراتيجية السياسية – العسكرية لحماس، بمعنى التناقض بين الوسيلة والغرض، أي استخدام المعارك كوسيلة للحصول على الغرض المطلوب من الحرب.
اقرأ أيضا.. ثلاثة عوامل ستسرع من عقد اتفاق التبادل والهدنة في غزة
هذا الوضع يخالف قانون القتال المسلح المتعارف عليه، والذي ينبني على أساس وجود علاقة بين السياسي والعسكري، وأن هذه العلاقة تقوم على عدم التناقض. بينما انبنت الممارسة السياسية – العسكرية لدى الحركة على التناقض، وهو تناقض لا يرفع، أو لا يرتقي إلى وضع متقدم، وإنما إلى التدهور، وينتهي إلى العجز الكلي أو الهلاك الذاتي. وهذا ما اسميته في مقالات سابقة بقانون التدهور الاستراتيجي، الذي حكم ممارسة حماس القتالية والسياسية، والذي يؤدي إلى انقطاع التواصل بين الحقائق العسكرية والسياسية.
وعليه، كانت الحركة عاجزة عن الخروج من الحرب، وذلك بسبب القصور الذاتي لديها، وأن هذا القصور الذاتي نابع من كونها تصورت نفسها مرتبطة بالحكم، وأن مقاومتها في الأصل هي من أجل خدمة هذا الحكم، حتى ولئن كان هذا الحكم تحت الاحتلال.
في هذا السياق، جاء الضغط الخارجي لفرض الصفقة ووقف إطلاق النار، متناغما مع القصور الذاتي، ومع العجز الداخلي للخروج من الحرب. نعم، التغيير في واشنطن غير قواعد اللعبة، وأخرج الصفقة العالقة إلى حيز الوجود. اتجاه واشنطن واضح: إعادة رسم الأدوار الإقليمية، وترتيبات إقليمية جديدة، ووضع فلسطيني جديد.
هل الصفقة ستقود إلى نهاية الحرب؟ ربما، لكن الثابت أن حماس لن تكون في اليوم التالي. المطلوب الاستعداد للقادم الذي لا بد أن ينبني على مصلحة الناس في الأول والأخير. لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن السقف السياسي للحرب مرتفع، وهناك فراغ في الإقليم، وليس ثمة قوة إقليمية قادرة على إحباط استراتيجية إسرائيل، وأن المنطقة مقبلة على التطبيع، وعلى أساس السلام مقابل السلام فحسب، وليس مقابل الأرض، وميزان القوة لا يعمل وفقا للفلسطينيين. أمام كل ذلك ليس لنا سوى أنفسنا.
وبناء على هذه الاعتبارات الآنفة، فإنه من الممكن أن يتبلور موقف من وجود السلطة في غزة ربما في حدود دنيا، فعليها أن تنخرط في إعادة تشكيل الواقع الجديد لمستقبل قطاع غزة، فالمطلوب التالي:
1. استكمال جهود نزع الشرعية عن حماس ونموذجها السياسي والعسكري.
2. موقف حازم من التسلح الداخلي، وعدم التهاون مع ضرورة نزع السلاح ليس من أيدي الفصائل فحسب، وإنما كذلك من أيدي الناس العاديين. وبلورة خطة أمنية تعيد تعريف التهديدات الداخلية، تكون مستخلصة من دروس وعبر هجوم حماس المفاجئ في السابع من أكتوبر من العام الماضي، وانكشاف حقيقة قوة حماس، بوصفها في الأصل قوة داخلية أكثر مما هي قوة في مواجهة الاحتلال، الذي عندما فرض عليها معركة فعليه انكشف حدود وإمكانات قوتها.
3. بلورة استراتيجية سياسية محدودة للغاية تتواكب مع الاحتياج المحلي الملح والضغط الدولي، لا تقوم على الإطار السياسي لإتفاقية أوسلو، فهذه أصبحت من الماضي، وبالتالي لا تصلح للاتجاه السياسي الجديد.
4. إعادة وصل قطاع غزة بالضفة في حدود دنيا، حتى وإن كان بصورة أقل مما كان في السابق.
5. في ضوء انكشاف المنطقة، والفراغ العربي الكبير، والعجز عن إحباط خطط إسرائيل وتوحشها والإغال في الدم الفلسطيني، ووضع حد للسلوك الحربي الإسرائيلي، ليس أمامنا سوى العودة إلى أنفسنا حتى ولو كان ذلك عبر الاندراج تحت الاحتلال الإسرائيلي مؤقتا، إلى أن يعاد تشكيل أنفسنا بما لا يسمح بتكرار المقتلة الناجمة عن هجوم 7 أكتوبر. فالمطلوب التفكير خارج الأطر السياسي المألوفة، وقبول وجود للسلطة في غزة ولو بحدود دنيا، وتخطي مطلب الدولة المستقلة نحو تقبل فكرة الحكم الذاتي الذي لربما مع الوقت يمكن أن يتسع، وبالتالي قبول فكرة الحكم الإداري.
فالمسألة ليست سياسية فحسب، فهذه تحتمل الإرجاء والانتظار، بينما الأهم المسألة الإنسانية التي لا تحتمل الإرجاء والانتظار. وعلى السلطة أن تعلم بأن رفضها الانخراط في تشكيل الواقع المستقبلي في غزة حتى لو اقتضى الأمر الاشتباك مع حماس التي باتت على هامش السياسة الفلسطينية والدولية والإقليمية، يزيد من تعقيد الحل. فثمة فرصة أمامها يجب اقتناصها وذلك بالدخول إلى غزة انطلاقا من الحكم الإداري متجاوزة بذلك الحكم السياسي ولو مرحليا، وأن توافق على تحمل المسؤولية الإنسانية فهذا الأمر يجعلها منخرطة في تشكيل الواقع الجديد الذي يلبي أيضا المطلب الإنساني والتخفيف عن الناس، وهذا ممكن. دون ذلك يصبح الثمن الذي يجب دفعه أعلى وأفدح، ويجعل السلطة متواطئة في إدامة الحرب لأنها تراهن وهميا على الخروج من الحرب عبر أفق الدولة المستقلة.