استراتيجية عسكرية فرنسية جديدة: إعادة التنظيم تحت غطاء الانسحاب:
في كلمته بمناسبة العام الميلادي الجديد أعلن الحسن وتارا، رئيس ساحل العاج منذ استيلائه على السلطة في العام 2010 بمساعدة التدخل العسكري الفرنسي، أننا “قررنا النظر في انسحاب القوات الفرنسية على نحو منسق ومنظم” من البلاد. بأي حال فإن كلمته لم تذكر وضع نهاية للاتفاقات العسكرية مع فرنسا الموقعة في العام 1961. وطالما استمرت مثل هذه الاتفاقات قائمة فإن فرنسا ستظل قادرة على استخدامها للقيام بمناورات عسكرية للتدخل بناء على طلب أذنابها الموجودون في السلطة (في ساحل العاج)، حسبما يرى آتشي إكيسي Achy Ekissi الأمين العام للحزب الشيوعي الثوري لساحل العاج Revolutionary Communist Party of Ivory Coast (PCRCI) في حديثه لدورية Peoples Dispatch. وكان الإلتزام الوحيد المحدد في كلمة وتارا هو أن “معسكر BIMA الثالثة والأربعون، وفرقة المشاة البحرية في بورت-بوي سيتم تسليمها للقوات المسلحة الإيفوارية في يناير 2025.
فرنسا وإعادة تنظيم وجودها العسكري في إفريقيا
أكد الجنرال تيري بوركارد Thierry Burkhard، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الفرنسية في يناير 2024 أن بلادها “تمتلك قواعد في السنغال وتشاد وساحل العاج والجابون. وتقع في عواصم تلك الدول، وأحيانًا داخل مناطق حضرية موسعة، مما يجعل حضورها ملموسًا على نحو متزايد يصعب السيطرة عليه. وسنحتاج إلى إعادة ضبط بناء قواعدنا من أجل خفض مكامن الضعف وأن نتبع نموذجًا أقل انكشافًا (في إفريقيا)”. وفي ذلك الوقت كانت فرنسا قد فقدت قواعدها الرئيسة في الإقليم.
ووسط موجة من الاحتجاجات ضد مواصلة هيمنة فرنسا الاقتصادية والعسكرية على مستعمراتها السابقة، تم خلع النظم الموالية لفرنسا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وبدعم واضح من الحركات المحلية المناهضة للاستعمار. وأمرت نظم الحكم في تلك الدول، مدعومة بتأييد شعبي ملحوظ، القوات الفرنسية بالخروج من أراضيها. واتحدت دول الساحل الثلاثة السابقة، تحت وطأة التهديدات الفرنسية بتوجيه قوات عسكرية لغزوها أو الهجمات الإرهابية التي تصاعدت بدعم فرنسا حسب اتهامات عواصم الدول الثلاثة لفرنسا، وكونت معًا “تحالف دول الساحل” Alliance of Sahel States (AES). كما بدأت دول أخرى ضمن القائمة التي ذكرها بوركارد في فرض تهديد متزايد على القواعد الفرنسية والنظم الحليفة لها، والتي تزايد تصورها وسط شعوب تلك الدول كدمى في يد باريس في الإقليم.
حكم القضاء ضد سلوك بلجيكا الاستعماري في إفريقيا نقطة تحول :
نُظر لحكم قضائي تاريخي بإدانة بلجيكا على خلفية جرائمها ضد الإنسانية خلال حكمها الاستعماري في وسط إفريقيا على أنه نقطة تحول يمكن أن تفسح الطريق أمام التعويضات وأشكال أخرى من تحقيق العدالة. وقد حكمت محكمة استئناف بلجيكية في الشهر الماضي (ديسمبر 2024) بأن “الخطف المنهجي” للأطفال من الأعراق المختلطة من أمهاتهن الأفريقيات في الكونغو ورواندا وبورندي التي كانت خاضعة للحكم البلجيكي تعد جريمة ضد الإنسانية. وكانت خمسة نسوة ممن تم اختطافهن من أمهاتهن الكونغوليات وهن أطفال في الفترة 1948- 1953، ويعشن الآن في بلجيكا وفرنسا، قد رفعن القضية. وتقرر تعويض كل منهن بمبلغ 50 ألف يورو (42 ألف جنيه استرليني) عن الأضرار التي لحقت بهن.
وقد أثرت فترة الحكم الاستعماري على مزيد من الآلاف من المختلطين metis من أطفال الأمهات الأفريقيات الآباء الأوروبيين الذين اعتبرتهم بلجيكا الإمبريالية تهديدًا لنظام التفوق الأبيض. وفقد كثير منهم جميع سبل التواصل مع أمهاتهم بعد نقلهم على بعد مئات الأميال من اوطانهم للعيش في مؤسسات دينية غير مكترثة بهم وتوفير تعليم غير كاف لهم. وقال فرانسوا ميليه Francios Milliex، رئيس جمعية المخلطين في بلجيكا Association of Métis of Belgium أن قرار المحكمة “يفتح بكل تأكيد الطريق” أمام من يسعون للحصول على تعويض مالي عن الفصل القسري بينهم وبين آبائهم.
وكان ميليه قد نقل إلى بلجيكا في العام 1960 وهو يبلغ من العمر 14 عامًا وأرسل من فوره إلى منزل لرعاية الأطفال مع اثنين من إخوته بعد فصلهم عن أقرانهم. وقد انقسمت الأسرة رغم أن أم ميلية الرواندية وأباه البلجيكي كانا على قيد الحياة، ومعروفين، وأرادا العناية بأطفالهما. وقد جرد من جنسيته البلجيكية في العام التالي مما جعله دون جنسية وغير قادر على مغادرة البلاد. وتمكن من استعادة جنسيته بعد مصاريف مالية منتظمة. وقال ميليه “إن أغلب المخلطون الذين رحلوا إلى بلجيكا يحدوهم الأسى لأن الدولة لم تقترح قط تعويضهم ماليًا عن المعاناة والألم”، مضيفًا أن هناك أفراد لا يزالون يعانون حتى اليوم من هذا الفصل، وخسارة الهوية ذاك، ومن أجل فهم سبب فصلهم عن أمهاتهم، ولماذا لمن يعترف بهم آباءهم، وبعد مرور 70 عامًا لا يزال بعضًا منهم يعاني من ذلك، ويسألون مثل هذه الأسئلة. إنه لألم حقيقي أن تظل تلك الأسئلة قائمة في قلوب جميع المخلطين.”
وقالت ميشيل هيرش Michèle Hirsch، المحامية التي مثلت النساء الخمس، أنه رغم فتح حكم المحكمة الباب أمام تعويضات لمن يمثل حالات مشابهة لموكلاتها، فإنه ثمة شكوك بخصوص التوقعات. “أعتقد أنه علينا أن نحارب حتى يتحقق ذلك”.
وكان رئيس وزراء بلجيكا حينها قد اعتذر في العام 2019 عن اختطاف الأطفال من أعراق مختلطة، وأطلقت الدولة لاحقًا مبادرة يمكن بمقتضاها لضحايا هذه الظاهرة الوصول للأرشيفات الرسمية التي يمكن أن تساعدهم على تتبع أصولهم العائلية. ومع تغيير المسئولون الاستعماريون بشكل احادي للأسماء أو اخطئوا في هجائها فإن كثير من الأطفال فقدوا الصلة مع عائلاتهم. لكن بلجيكا، خلافًا لحالات أخرى مثل أستراليا وكندا فيما يتعلق بالسكان الأصليين، رفضت تقديم تعويضات مالية لهذه الحالات. في المقابل تدرس مؤسسة Resolution Metis، وهو جهة بحثية تابعة للدولة تعمل على تيسير الوصول للأرشيفات، كيفية تأثر كثير من الناس بمثل هذه السياسات، لكنه قال أنه لا يمكن تقديم إجابات قاطعة.
إقرأ أيضا : الصفقة المفخخة.. وتهديدات ترامب
وثمة يقين في نقل مئات من الأطفال المختلطين عرقيًا قسرًا إلى بلجيكا في الفترة 1960-1962 عندما نالت الكونغو ورواندا وبوروندي استقلالها، لكن أغلب من تعرضوا للاختطاف ظلوا في وسط أفريقيا. وحسب متخصصون فإن قرار المحكمة “يمكن أن يمثل نقطة تحول بالنسبة لأفراد في إقليم البحيرات الكبرى يمكنهم بمقتض1اه، إن أرادوا، الحصول على العدالة. ويمكن لضحايا الظاهرة، سواء الأمهات اللواتي فقدن أبنائهن أم الأطفال الذين تم اختطافهم، أن يستخدموا قرار المحكمة للحصول على تعويضات من الحكومة البلجيكية. وتسعى بعض المنظمات غير الحكومية إلى اعتراف أكبر بالنساء اللواتي تم نقلهن مع أولادهن إلى بلجيكا. وكن في الغالب في سن المراهقة وأحيانًا في عمر 14-15 عامًا عندما كن حوامل من رجال من المستعمرين الأوروبيين كانوا على الأرجح في العقود من الرابع إلى السادس عمرًا. وقد ماتت بعض هؤلاء النساء دون عودة أطفالهن لهن، او حتى دون أن يعرفن مكان أولادهن.
في المقابل علقت وزارة الخارجية البلجيكية على المسألة قائلة إن “الحكومة البلجيكية لم تقرر بعد موقفها إزاء المتابعة التي ستنتهجها إزاء حكم محكمة الاستئناف. ولا تزال الوزارة عاكفة على تحليل هذا الحكم.” ويمكن للحكومة أن تستأنف على هذا الحكم أمام المحكمة العليا بالبلاد. فيما علق خبراء قانونيون في بلجيكا على الحكم بانه تاريخي في بلجيكا لأنه “للمرة الأولى تتم إدانة الدولة على جرائم استعمارية”، وهو ما يبرر تردد بلجيكا في مسألة التعويضات خلافًا لحال دول غربية. وتوقع البعض أن تنتهج بلجيكا المعاملة الأسترالية “لأجيالها المسروقة” عبر تمرير قانون لتعويض جميع من تأثروا بعمليات الاختطاف. ومن جهة أخرى فإنه يمكن لبلجيكا الانتظار لقيام الفراد بقضاياهم وهي مقاربة يمكن أن تؤثر بقوة على من لا يمتلكون وثائق دامة لمطالباتهم.
تحويل السياسة لفعل في إفريقيا:
إن أحد أكبر التحديات التي تواجه صناع السياسة في العالم هو سد الفجوة بين نوايا السياسة ومخرجات تطبيقها، سواء في تلبية المطلب العام بالتنمية والتعليم والصحة والأمن وأو السياسة الخارجية أو تحقيق أهداف سياسية أكثر تحديدًا. إن تطبيق سياسي ناجح يعتبر أمر بالغ الأهمية على جميع مستويات صنع السياسة في الاقتصادات المتقدمة والنامية. ويتجسد هذا التصور بشكل خاص عند تناول تحديات التنمية في إفريقيا.
وعلى سبيل المثال فإنه رغم التنسيق العالمي حول أهداف التنمية المستدامة، التي تضع أهدافًا واضحة وحزمة من الاستراتيجيات لتحقيقها، فإن 16% فقط منها على مسار تلبيتها بحلول العام 2030، فيما تواجه 84% من الأهداف تقدمًا محدودًا او انتكاسة في التقدم. كما أن مستويات نجاح السياسة غير المتساوية تبدو واضحة عبر الأقاليم والقارات وداخلها. ففي الأقاليم، على سبيل المثال، نجد دولًا مثل فنلندا والسويد والدنمارك تسجل 85 (من مائة) أو أكثر في 125 مؤشرًا تكون في مجملها مؤشر أهداف التنمية المستدامة، بينما دولًا مثل اليمن وأفغانستان وبابوا نيو غينيا لا تسجل إلا 46.9، و 48.2، و 52 نقطة على التوالي. والأمر نفسه في داخل إفريقيا حيث تقود دولٌ مثل تونس والمغرب وموريشيوس الصدارة بأكثر من 70 نقطة وفقًا لتصنيف العام 2024، بينما تتخلف الصومال وجمهورية الكونغو في التصنيف بما يقل عن 50 نقطة. وبشكل عام فإن الفجوة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بين أفقر دول العالم وأكثرها هشاشة من جهة والمتوسط العالمي من الجهة الأخرى آخذ في الاتساع منذ العام 2015.
تحديات التطبيق المتعلق بالحوكمة والهشاشة والرأي العام
إن التباين في مخرجات السياسة ليس قاصرًا على أهداف التنمية المستدامة. ورغم الجهود الدولية لمكافحة هشاشة الدولة عبر تسخير الموارد وتطبيق سياسات متنوعة، فإن كثير من الدول ظلت “عالقة” في الهشاشة لعقود. كما أن تعقيد الهشاشة وتنوع أبعادها يجعل من استراتيجيات تطبيق السياسة أمرًا هامًا للنجاح ويفسر كيف يمكن أن يمر نفس الإقليم بمجموعة متنوعة للغاية من المخرجات. وعلى سبيل المثال فإن إفريقيا تضم على أرضها 14 من 20 دولة من أكثر الدولة هشاشة في العالم، غير أنها تضم أيضًا دولة مثل موريشيوس وهي واحدة من أقل دول العالم هشاشة وتتفوق في الأداء (في هذا المؤشر) على دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإيطاليا وكوستاريكا.
ووفقًا لبيانات جديدة من أفروباروميتر Afrobarometer فإنه من بين 39 دولة إفريقية تمت دراستها فإن ربع مواطنيها فقط (نحو 26%) يقولون أن حكوماتهم تبذل جهودًا مرضية بالكاد أو مرضية للغاية في إدارة الاقتصاد، فيما يعتقد 71% من المواطنين الأفارقة في الدول المدروسة أن حكوماتهم تقوم بأداء سيء في هذا المسار. وعلى نحو أكثر تحديدًا، فإن القبول العام لقدرة الحكومة على تقديم الخدمات يظل منخفضًا للغاية: إذ لا يتفق إلا 22% على قبول جهود حكوماتهم لتحسين مستويات معيشة الفقراء، فيما يوافق 20% فقط على قبول أداء الحكومة في خلق فرص العمل، و16% في تضييق فجوات الدخل، و12% في مسار الحفاظ على استقرار الأسعار.