وحدة القوى الثورية في السودان: التحديات والفرص في ظل الحرب
إن الحرب لم تأتِ فقط لتزيد من تعقيد المشهد السياسي، بل كشفت عن ضعف الإسلاميين في السودان وفضحت تأثيرهم المتراجع على الساحة. هذا التراجع وفر للقوى الثورية فرصة ثمينة لتنظيم صفوفها والضغط من أجل تحقيق أهدافها
شهدت ثورة ديسمبر/كانون الأول في السودان حراكًا شعبيًا بديعًا استطاع أن يُسقط نظام الإسلاميين ويُذلّهم، ليصبح حدثًا فارقًا في تاريخ السودان الحديث. ورغم النجاح في الإطاحة بالحكومة آنذاك، إلا أن ما تلا ذلك كان أشبه بمرحلة من التيه السياسي، حيث وجدت القوى الثورية نفسها مفككة وتواجه تحديات تنظيمية ومعنوية. واليوم، وبعد اندلاع الحرب الأخيرة، انقسم الشعب إلى ثلاثة معسكرات رئيسية، إلا أن الرابط المشترك بين هذه المجموعات الثلاث هو إيمانها الراسخ بمبادئ ثورة ديسمبر والحرية والديمقراطية ورفضها التام للإسلام السياسي والدولة الدينية.
المعسكر الأول يتكون من قوى سياسية وعسكرية تؤمن بأن السلاح لا يمكن أن يكون الحل للأزمة الراهنة. رغم أن هذه المجموعة لا تقف على الحياد تمامًا، إلا أنها تتبنى موقفًا ضد الحرب بشكل عام، رافضة الانحياز إلى أي من طرفي النزاع، سواء الجيش أو قوات الدعم السريع. هؤلاء يرون أن الحوار هو السبيل الأمثل للخروج من الأزمة الحالية، وأن الحل العسكري لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع وإطالة أمد الصراع.
المعسكر الثاني ينتمي جزء منه أصلاً إلى قوات الدعم السريع، بينما انحاز آخرون من مناصري ثورة ديسمبر لهذا الفصيل. هؤلاء يرون في الدعم السريع قوة قادرة على القضاء على الإسلام السياسي باستخدام أدوات الدولة العسكرية. بالنسبة إليهم التحالف مع الدعم السريع يمثل فرصة لضمان تفكيك النظام الإسلامي المتجذر في بنية الدولة السودانية.
المعسكر الثالث انحاز إلى الجيش، ولكن ليس بدافع الثقة في القيادة العليا، بل لقناعة أن القواعد العسكرية وصغار الضباط والجنود هم جزء من الثورة، وأن الجيش الموحد يمكن أن يصبح ركيزة لدولة مدنية في المستقبل. رغم إيمانهم بأن القيادة العليا للجيش تمثل امتدادًا للإسلاميين، إلا أنهم يرون أن المؤسسة العسكرية ذاتها يمكن أن تكون جزءًا من الحل إذا تم إصلاحها وتنقيتها من النفوذ الإسلامي.
ورغم الانقسام الظاهر بين هذه المعسكرات الثلاثة، فإنها تتشارك في عدة نقاط جوهرية تجعل من الوحدة التنظيمية هدفًا ممكنًا وضروريّا.
أولاً، جميع هذه المجموعات تتفق على رفض الإسلام السياسي والدولة الدينية. إن تركة النظام السابق لا تزال تشكل مصدرًا كبيرًا للانقسام، لكن في نهاية المطاف هناك إجماع على ضرورة التخلص من تأثير الإسلاميين على مؤسسات الدولة.
ثانيًا، تؤمن هذه المجموعات إيمانا تاما بشعارات ثورة ديسمبر: الحرية، السلام، والعدالة. هذه القيم تشكل الأساس الذي يحركهم جميعًا، بغض النظر عن الفروقات في الإستراتيجيات أو الأدوات المستخدمة.
ثالثًا، لديهم إيمان مشترك بالدولة السودانية الموحدة، والقدرة على بناء مستقبل أفضل يتجاوز صراعات الماضي والحاضر. هذا الإيمان يترسخ مع كل خطوة تخطوها هذه القوى نحو الحوار، حتى لو كانت الخلافات لا تزال عميقة.
رابعًا، الجميع مقتنعون بأن السودان يمكن أن يتجاوز أزمته الحالية إذا تم توحيد الجهود بين القوى الثورية المختلفة، وأن بناء سودان مستقبلي قادر على تحقيق تطلعات الشعب يتطلب تضافر الجهود.
رغم أن هذه المعسكرات متوحدة فكريًا، إلا أن تحدي الوحدة التنظيمية أصبح أكثر إلحاحًا مع استمرار الحرب. إن تشكيل قوة موحدة تعمل على تحقيق النقاط المتفق عليها بين هذه المجموعات لا يمكن أن يحدث إلا من خلال لقاءات وحوارات بناءة، بعيدًا عن التناقضات والصراعات الجانبية.
إقرأ أيضا : زيلينسكي و”خطة النصر”… هل من مقومات للنجاح؟
إن الحرب لم تأتِ فقط لتزيد من تعقيد المشهد السياسي، بل كشفت عن ضعف الإسلاميين في السودان وفضحت تأثيرهم المتراجع على الساحة. هذا التراجع وفر للقوى الثورية فرصة ثمينة لتنظيم صفوفها والضغط من أجل تحقيق أهدافها. ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي استطاع أنصار ثورة ديسمبر أن يثبتوا وجودهم ويبرهنوا على أنهم القوة الحقيقية المؤثرة في الساحة السياسية، خاصة في ظل حالة توازن الضعف بين أطراف النزاع.
السودان اليوم يقف على مفترق طرق، حيث تتصارع فيه القوى المسلحة والسياسية في ظل ضعف واضح في الهياكل التقليدية للدولة. ومع ذلك، فإن الأمل لا يزال قائمًا في قدرة القوى الثورية على تنظيم نفسها واستعادة زخم ثورة ديسمبر. وإذا استطاعت هذه القوى تجاوز خلافاتها وتوحيد صفوفها فستكون قادرة على بناء سودان جديد يقوم على قيم الحرية والسلام والديمقراطية.
تبقى المسؤولية الكبرى على عاتق هذه المجموعات الثورية لإعادة ترتيب أولوياتها، والانخراط في حوار جاد يهدف إلى بناء تحالف وطني قادر على إنقاذ السودان من دوامة الحرب والانقسامات، وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الحرية والعدالة.