تكتسي العلاقات اللبنانية السورية صفة التغير والتبدل بالنظر لطبيعة الظروف التي تحيط بالبلدين تارة، وتارة أخرى بطبيعة النظم السياسية التي تبدلت وتغيرت ابان استقلال البلدين عن فرنسا. ومفارقة هذه العلاقات ديمومة ارتباطها بشكل وثيق مع العديد من القضايا العربية والشرق أوسطية، لدرجة انها وصفت وكأنها مقياسا لطبيعة ومستوى التحالفات الإقليمية وحتى الدولية التي تحيط بهما.
وما يزيد الأمور تعقيدا في الصورة النمطية لطبيعة العلاقة وما يؤثر بها، الجغرافيا السياسية التي تأسست عليها كل من الدولتين علاوة على الروابط الاجتماعية التي جمعت الشعبين، سيما وان كلا البلدين خضعا للحكم العثماني، حيث اختلطت الكثير من المعالم الاجتماعية لتؤسس لصورة يصعب في كثير من الأحيان تمييز البلدين في الكثير من المسائل.
فلبنان الذي تأسس في العام 1920 ضم اكثر من ثلثي أراضيه عن اقليم سوريا الى جبل لبنان، والتي عرفت بإسم الاقضية الأربعة، حيث بدأت صورة التناقضات تتبلور برفض المسلمين الانضمام الى الدولة الوليدة، والإصرار على البقاء ضمن الإقليم السوري، واستمر هذا الوضع لما بعد العام 1936 حيث لعبت الكتلة الوطنية في سوريا دورا حاسما في اقناع المسلمين بالانضمام الى دولة لبنان والتخلي عن فكرة الوحدة مع سوريا. ومع تلاشي تلك المطالب مع انتهاء الانتداب الفرنسي، حتى تركزت العلاقات بأبعاد مختلفة تبدلت وتنامت مع تبدل المشهدين العربي والاقليمي وبالتأكيد الدولي. حيث ظهرت العديد من القضايا كمؤثرات في طبيعة العلاقات، من بينها العامل الفلسطيني بعد حرب 1948 و1967 وبخاصة احداث الأردن 1969 وانتقال العمل العسكري الفلسطيني الى لبنان عبر اتفاق القاهرة، والذي من خلاله تبددت طبيعة العلاقات المفترضة، الى توتر دائم بعدما انقسم اللبنانيون بين مؤيد للعمل الفدائي ومعارض له، حيث دعمت سوريا المسلمين والحركة الوطنية بمواجهة الجبهة اللبنانية التي تأسست عبر أحزاب مسيحية. ومع انفجار الحرب الاهلية اللبنانية، دخلت سوريا مباشرة لإدارة الازمة القائمة، برعاية عربية أولا عبر قوات الردع العربية التي ما لبثت ان انسحبت، لتبقى القوات السورية متحكمة بالواقع اللبناني حتى 26 نيسان 2005 تاريخ انسحابها من لبنان تحت ضغط تداعيات اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي شكل هذا الحدث نقطة تحول رئيسية في الحياة السياسية اللبنانية بداية والسورية لاحقا وبخاصة بعد العام 2010 وانطلاق الثورة على نظام الحكم في سوريا.
إقرأ أيضا :من القوة العسكرية إلى البراغماتية: موسكو تواجه تحديات ما بعد الأسد
لقد تأسست العلاقات الثنائية على قواعد مختلفة بحسب الظروف ومقتضيات الامر الواقع الذي حكم ظروف البلدين، فبين العام 1975 تاريخ بدء الحرب الاهلية وتسلم سوريا إدارة الازمة طغى على العلاقة مزيج من المؤثرات، العلاقة مع الأحزاب اللبنانية وبنسب قليلة التأثير مع السلطات الرسمية، حيث دعمت قوى بمواجهة قوى أخرى ولم تتوان أيضا عن الدخول في معارك لقلب موازين القوى بين الأطراف اللبنانية، كأحداث زحلة وبيروت وغيرها والتي حاولت التأثير في طبيعة النظام عبر مشاريع مختلفة، كالوثيقة الدستورية 1976 نهاية عهد الرئيس سليمان فرنجية، والاتفاق الثلاثي 1985 ابان عهد الرئيس امين الجميل، وانتهاءً باتفاق الطائف بعدما دخل لجانبها اطراف عربية ودولية لإعادة تكوين السلطة في لبنان والتي نظمت طبيعة العلاقات البينية على أسس مؤسساتية لاحقا.
في العام 1991 تم توقيع معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق بين البلدين التي كانت بمثابة إعادة تكوين العلاقات البينية على أسس رسمية مؤسساتية، والتي من خلالها تم توقيع 42 اتفاقية ثنائية شملت مختلف المجالات الاستراتيجية، السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، بحيث لم يترك شأن الا ونظمت فيه اتفاقية تفصيلية، حيث ظهرت الكثير من الأصوات المعترضة على الكثير منها، لاعتبارات عدم توازن المصالح، وطغيان التأثير السوري فيها وتداعياته على الواقع اللبناني. وقد شهدت تلك المرحلة 1991 – 2005 إدارة سورية واضحة للواقع اللبناني، عبر مستويات ومبادئ سياسية استراتيجية كمبدأ وحدة المصير والمسار الذي بدأ مع المفاوضات العربية الإسرائيلية عبر مؤتمر مدريد وملاحقه، وعبر الاتفاقيات الأمنية والعسكرية، والاقتصادية والتجارية، وقضايا المياه والثقافة والسياحة وغيرها الكثير.
إقرأ أيضا : من القوة العسكرية إلى البراغماتية: موسكو تواجه تحديات ما بعد الأسد
اليوم ثمة واقع مختلف تماما بعد انهيار النظام السوري، وقطف إسرائيل لنتائج حربها على غزة ولبنان ودخولها أيضا في الأزمة السورية بشكل مباشر، إضافة الى معطيات ومؤشرات الى تداعيات أخرى إقليمية تشمل العراق وايران وتركيا وغيرها، ما يشي بضرورة النظر بواقعية في طبيعة مستقبل العلاقات المفترضة بين البلدين في ظل ظروف قاهرة ستزيد من منسوب الضغوط على الطرفين لبناء علاقات طبيعية مقبولة قابلة للحياة.
وفي هذا الاطار ثمة تحديات كثيرة تنتظر الطرفان، بدءا من الاتفاقيات الثنائية الـ 42 حيث الكثير الكثير من الأصوات المعترضة عليها، اضافة الى قضية النازحين السوريين في لبنان والذي بلغ في اقل تقدير المليوني نازح وسط غياب للمعلومات الدقيقة عن أوضاعهم وفي ظل تجاهل دولي لقضاياهم التي باتت تشكل عبئا ثقيلا على الواقع اللبناني، إضافة الى قضايا ترسيم الحدود والتبادل التجاري وتنظيم العمالة السورية في لبنان وغيرها. فهناك عشرات القضايا الحساسة التي تستوجب البحث والحل لتستقيم العلاقات البينية بين الطرفين.
في الماضي، شاع مصطلح لبنان الخاصرة الرخوة لسوريا على قاعدة المخاطر المحتملة، اليوم انقلبت الصورة لتصبح سوريا الخاصرة الرخوة للبنان على قاعدة تفشي المخاطر المحتملة، والامر لا يقتصر بالضرورة على المسائل والقضايا الأمنية والعسكرية، الواقع يستلزم جهودا وازنة أولا للحفاظ على الجغرافيا السياسية للبلدين، وثانيا العمل لتنظيم وحل القضايا الخلافية، ذلك يتطلب واقعية سياسية بمستويات رفيعة في زمن باتت المخاطر كبيرة جدا، حيث لم يعد الصراع مقتصرا على النفوذ في المنطقة، انما ثمة صراع غير معلن رغم وضوحه على إعادة ترتيب الجغرافيا السياسية للإقليم الذي بات جاهزا لذلك.