خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس في القمة العربية الثالثة والثلاثين بالمنامة عاصمة مملكة البحرين يؤكد على الالتزام المغربي الكامل بالقضايا العربية المشتركة، حيث أن العمق العربي للمملكة المغربية يشكل أحد الثوابت الإستراتيجية في السياسة الخارجية مرتكزا على الانتماء المشترك والعديد من الروابط ونقاط الالتقاء مع باقي الشعوب العربية الشقيقة.
الخطاب يؤسس بكل مسؤولية ووضوح لرؤية جديدة لمعالجة القضايا العربية المشتركة وفق مقاربة واقعية تهدف إلى مواجهة الوضع العربي الراهن الذي يواجه مخاطر أمنية متعددة الأبعاد وتحديات تنموية لها راهنيتها بالنظر إلى الأزمات التي تهددها بالفشل.
فالمملكة المغربية لها دور تاريخي في العمل العربي المشترك أسسه الملك الراحل محمد الخامس انطلاقا من خطاب طنجة سنة 1947 وكرسه الملك الراحل الحسن الثاني بتوازناته العربية وعلاقاته الدولية المتشعبة وحافظ عليه الملك محمد السادس بنهج سياسي واقعي ودبلوماسية استباقية صادقة.
الخطاب تناول ملفين لهما راهنيتهما على طاولة صانع القرار السياسي العربي: القضية الفلسطينية بتشعباتها الإقليمية والدولية والتكامل العربي لدوره الكبير المنتظر في رسم مستقبل مغاير للشعوب العربية، مع التركيز على دور الشباب العربي كمحرك أساسي لقوى التغيير في المنطقة .
الملك محمد السادس جدد التذكير بموقف المغرب الثابت إزاء القضية الفلسطينية من خلال امتداداتها الجيوسياسية وتقاطع مصالح أكثر من طرف إقليمي ودولي، يشكل التوصل إلى حل مستدام وشامل لها الهدف الأسمى والخطوة الأولى لتحقيق الاستقرار وتعزيز الأمن في منطقة الشرق الأوسط.
الموقف المغربي إزاء حقوق الشعب الفلسطيني لم يتغير بتغير الفاعلين أو تغير الشروط الموضوعية للصراع في الشرق الأوسط، بل إن الأحداث الأخيرة كانت فرصة لتأكيد الموقف المغربي من هذا الملف الذي شكل طوال عقود أولوية قصوى، فقد حدد الخطاب بكل الوضوح المطلوب وبدون مواربة وانطلاقا من مسؤولية تاريخية موقف المغرب الرسمي والشعبي الرافض للعدوان الغاشم الذي تشنه آلة الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة مستهدفة المدنيين من أطفال ونساء وعجائز، حيث تم تسجيل فظائع إنسانية في حق الشعب الفلسطيني حركت معها ضمير العالم.
وجدير بالذكر أن مواقف الملك محمد السادس المتقدمة في هذا الملف كان لها دورها المتميز في دفع كل القوى الحية في العالم إلى تحمل مسؤوليتها التاريخية إزاء المجازر التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية في حق المدنيين العزل في قطاع غزة وتعزيز كل المطالب الدولية بوقف فوري لإطلاق النار في القطاع وضمان تدفق المساعدات بشكل انسيابي إلى المنكوبين فيه، وكذلك وقف الاستفزازات التي تنفذها عناصر إسرائيلية متطرفة بدعم من جهات حكومية إسرائيلية في الضفة الغربية، في رسالة قوية ومباشرة تضع مختلف القوى الحية في العالم أمام مسؤوليتها الأخلاقية بضرورة التدخل العاجل لوقف الأعمال العدائية في القطاع وفتح الممرات الإنسانية لتقديم المساعدات للمدنيين العزل وإطلاق عملية سياسية تنهي المآسي الإنسانية التي يمر بها الشعب الفلسطيني.
وأكد العاهل المغربي على أن الجهود السياسية والدبلوماسية يوازيها عمل ميداني مستدام وجهد إنساني لا يتوقف لصالح القضية الفلسطينية، وكذلك العمليات الدبلوماسية النوعية التي نفذتها المصالح الخارجية المختصة بإدخال مساعدات برية لأول مرة منذ بدْء الحرب إلى قطاع غزة.
الخطاب وضع النقاط فوق الحروف بالدعوة المفتوحة الموجهة إلى القادة والزعماء العرب والأوساط الحكومية من أجل البحث عن إطار مرجعي مشترك جديد وفق رؤية عربية متكاملة لمعالجة القضايا العربية انطلاقا من حلول عربية بأياد عربية بعيدا عن التدخلات الخارجية، مؤكدا ضرورة وجود “تصور إستراتيجي مشترك، وتوفر إرادة سياسية صادقة، لتوطيد وحدتها ورص صفوفها، بما يخدم المصالح المشتركة لشعوبنا، وتحقيق تطلعاتها إلى المزيد من التفاهم والتواصل والتكامل بين مكوناتها”.
وهذا لن يتأتى إلا من خلال تبني رؤية واقعية تؤمن بالبناء المشترك ومبادئ الوحدة والتكامل والتنمية العربية المشتركة، وتلتزم بمبادئ حسن الجوار واحترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية للدول العربية، وتجنب التدخلات الخارجية وعدم السماح بزرع بذور التفرقة وتجاوز مقاربات الانفصال داخل المنظومة العربية، وتفعيل آليات التعاون والتنسيق بين مختلف الأطراف العربية الحكومية والشعبية والفكرية من أجل الوصول إلى توافق عربي حول الرؤية والأهداف والآليات، حيث أن الدعوة الملكية السامية إلى إطلاق هذا الحوار الشامل والتفاعلي هي خطوة مهمة في هذا الاتجاه، وهو السبيل الوحيد لتجاوز المصاعب والتحديات التي تواجه قضايانا العربية المصيرية.
فتعطيل اتحاد المغرب العربي كفضاء مغاربي يعزز التعاون والحوار بين دول المنطقة ويساعد على حل النزاعات والإشكالات الإقليمية من خلال العمل المستمر للنظام الجزائري من أجل تجاوز مؤسسات المغرب العربي كإطار قانوني للعمل المشترك، يظل أحد الأعطاب الحقيقية التي تواجه المنطقة المغاربية باعتبارها الجناح الغربي للعالم العربي حيث تفوت السياسات العدائية للنظام الجزائري فرصا حقيقية للاندماج والتكامل الاقتصادي بين الدول الخمس في إطار فضاء إقليمي قادر على تحقيق طموحات شعوبها في التنمية المستدامة والأمن والسلام.
الخطاب أشار إلى نقطة مهمة هي دور الشباب العربي في إحداث التغيير المطلوب في السياسات العربية والارتقاء بها إلى مستوى عال من التكامل والتنسيق والاندماج بما يخدم مصالح الأجيال المقبلة؛ فديموغرافيًّا المنطقة العربية تبقى المنطقة الأكثر شبابية في العالم ففيها النسبة الأعلى من السكان الشباب (18 – 24 سنة).
ومن جهة أخرى هي المنطقة التي بها أعلى نسبة لبطالة الشباب في العالم مقارنة بالمعدل الدولي، وذلك حسب آخر المعطيات التي جاءت في التقرير الأخير لسنة 2023 الصادر عن منظمة العمل الدولية حيث تظهر معطيات المنظمة في تقريرها الأخير لسنة 2023 وجود فروق شاسعة بين الشباب العربي وباقي شباب العالم، فالشباب العربي يُعاني مستويات عالية من البطالة ومن سوء استخدام قدراته ومن هدر وقته خارج التعليم والتدريب والعمل، فنسبة “عدم استغلال قوة العمل” لدى الشباب العربي 40.4 في المئة ولدى الشابات العربيات 65.6 في المئة، ونسبة بطالة الشباب في العالم العربي 25.7 في المئة كما جاء في تقرير منظمة العمل الدولية لسنة 2023 مقارنة بالمعدل العالمي الذي يصل إلى 15 في المئة، بينما حصل المغرب على أفضل معدل في شمال أفريقيا 13 في المئة.
ولهذا فإن بناء رؤية إستراتيجية مشتركة مدعومة بالإرادة السياسية هو خطوة أساسية لتعزيز قدرات الأمة العربية وتحقيق طموحاتها، والتركيز على تنمية وتأهيل الشباب العربي هو ضرورة ملحة إذا أردنا النهوض بمجتمعاتنا واستغلال طاقاتها الهائلة لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي المنشود. اليوم نحن بحاجة إلى استثمارات كبيرة في التعليم والتدريب المهني وتوفير فرص العمل المناسبة للشباب، بما يمكنهم من المساهمة الفعالة في قيادة عملية التنمية الشاملة في البلدان العربية وهو ما أكد عليه الملك محمد السادس قائلا “إن إعداد وتأهيل شباب واع ومسؤول، هو الثروة الحقيقية لدولنا، وهو السبيل الأمثل لتعزيز مكانتها، وجعلها قادرة على النهوض بقضاياها المصيرية، وأن تكون فاعلا وازنا في محيطها الإقليمي والدولي”.
فلسفة القمة العربية كتجمع سنوي للقادة العرب في زمن التكتلات الجهوية في ظل تصاعد المخاطر المرتبطة بالبحث المشترك لتطوير جهود التعافي من التداعيات المدمرة لجائحة كورونا وحالة الاستقطاب الدولي المرتفعة على إثر الحرب الأوكرانية – الروسية وانعكاسات الحرب في غزة على الأمن العربي من خلال الاختراق الواضح للصف العربي بأجندات مختلفة وبروز شبح أزمة غذائية قد تهدد مجموعة من الشعوب العربية التي تعتبر من أكبر شعوب العالم تأثرا بأزمة المناخ والجفاف والتصحر في غياب إستراتيجية اقتصادية عربية متكاملة، كل هذه الأسباب تؤكد أهمية دعم الجهود المبذولة من أجل البحث عن بلورة رؤية عربية متجددة وتصور إستراتيجي واضح المعالم للعمل العربي المشترك في أفق بناء ميكانيزمات مشتركة للتعاون والتنسيق والتكامل السياسي الاقتصادي والاجتماعي.