في تحرك حاسم يوم السادس والعشرين من آذار/مارس لعام 2024، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية سلسلة من العقوبات المستهدفة لما يعرفون بـ ”أوليغارشية” سوريا، وهذه العقوبات جاءت ردًا على أنشطة تجارية ومالية مشبوهة تُسهم في دعم النظام الحاكم في سوريا، وتشمل تجارة المواد المخدرة والتحويلات المالية غير القانونية.
براين أي، المسؤول البارز في وزارة الخزانة، أكد على استمرارية الحاضنة المالية المحيطة بالرئيس السوري بشار الأسد في ابتكار طرق ملتوية للالتفاف على العقوبات الدولية، مستغلًا في ذلك الاتجار بالمواد المحظورة كالمخدرات والمناورات المالية المعقدة، وذلك في إطار حملته الطويلة والقمعية ضد الشعب السوري.
وقد شملت العقوبات الأميركية مجموعة من الأفراد والمؤسسات المالية التي لعبت دورًا في تعزيز البنية المالية للسلطة السورية، ومن بينهم شخصيات وشركات متعددة، تم تحديدها بدقة لتقديمها دعما ماديًا وماليًا للحكومة السورية.
“الكبتاغون”.. شريان الحياة
في تطور لافت للأحداث، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية عن فرض عقوبات موجهة ضد مجموعة من الأفراد والمؤسسات، بتهمة تقديم الدعم المالي والمادي للحكومة السورية، وشملت هذه العقوبات شخصيات بارزة وشركات متنوعة، من بينها مؤسسات مالية وشركات سياحية.
تأتي هذه الخطوة في سياق محاولات واشنطن لتضييق الخناق على الأنشطة الاقتصادية التي تسهم في دعم السياسات السورية، مع التركيز على قطاعات الصرافة والتجارة التي تُعتبر حيوية في تمويل العمليات الحكومية. وهذا الإجراء يُعد جزءًا من استراتيجية أوسع للضغط الاقتصادي والسياسي على السلطة السورية في دمشق.
العقوبات طالت طاهر الكيالي وشركته “نبتونوس”، ومحمود عبد الإله الدج مالك شركتي “الطير الحر” و”فري بيرد” للسياحة والسفر، وتوفيق محمد سعيد علاء، الذي يعمل صرافًا سوريًا في لبنان، ومحمد علي المنلا رئيس المعاملات الخارجية في بنك “سوريا” المركزي، إضافة إلى شركات “مايا” للصرافة، “الفاضل” للصرافة، “الأدهم” للصرافة.
قبل أن تلوح في الأفق رياح التغيير التي أحدثتها احتجاجات عام 2011، كان طاهر الكيالي ينعم بحياة هادئة في إيطاليا برفقة عائلته. لكن مسار حياته اتخذ منعطفًا حادًا عندما عاد إلى مسقط رأسه اللاذقية في عام 2015، وذلك بعد أن طالته يد العدالة بتهمة قيادة شبكة إجرامية متخصصة في تهريب السيارات الفاخرة المسروقة من ميناء روتردام العريق.
وفي ظل الظروف الجديدة، أسس الكيالي في آب/أغسطس 2017 شركة “نبتونوس” على الأراضي السورية، بالإضافة إلى عدد من الشركات التجارية الوهمية، في محاولة للالتفاف على العقوبات المفروضة على حكومة دمشق، مما عكس تحولات جذرية في مسيرته المهنية والشخصية.
على وقع أمواج البحر المتوسط في اللاذقية، برزت شركة “نبتونوس” التي يمتلكها الكيالي كفاعل رئيسي في قطاع الخدمات البحرية، متخصصة في تموين السفن وتجارة المعدات البحرية. ومع ذلك، تحولت هذه الشركة إلى محور لأنشطة مشبوهة، حيث أشارت تقارير وزارة الخزانة الأميركية إلى تورطها في تصدير المواد المخدرة كـ”الكبتاغون” والحشيش، مما يعكس تحولًا دراماتيكيًا في نشاطها التجاري.
في عام 2018، اعترضت السلطات اليونانية سفينة الشحن “نوكا”، المملوكة لشركة “نبتونوس”، والتي كانت تحمل شحنة ضخمة من “الكبتاغون” والحشيش تقدر قيمتها بأكثر من 100 مليون دولار أميركي، في رحلتها من ميناء اللاذقية إلى شرق ليبيا.
وفي سياق متصل، كشفت السلطات الإيطالية في شباط/فبراير 2023 عن نتائج تحقيقات استمرت عامًا ونصفًا، أدت إلى الكشف عن المسؤول عن شحنة “كبتاغون” تزن 14 طنًا وتقدر قيمتها بأكثر من مليار يورو، تم ضبطها قبالة ميناء ساليرنو في يوليو 2020.
التهريب تحت بند السياحة
في الأروقة الدولية للعدالة، تم إدراج اسم محمود عبد الإله الدج ضمن قائمة العقوبات، جنبًا إلى جنب مع الكيالي، وذلك لدوره المحوري في تسهيل تجارة المواد المخدرة كـ”الكبتاغون” والحشيش عبر سفينة “نوكا”، التي أصبحت محط أنظار السلطات اليونانية.
ويشغل الدج منصب الوكيل الرسمي لشركة “أجنحة الشام” السورية في ليبيا، وهي شركة تحوم حولها الشبهات بتهريب المخدرات والبشر. ومن خلال شركته “الطير” للسياحة والسفر، استقبل الدج شحنات مشبوهة مرتبطة بـ”الكبتاغون”، مما دفعه لإنشاء شركة “فري بيرد” للسياحة والسفر كواجهة جديدة، في أعقاب الإدانات التي طالته وشركته الأولى بتهم تهريب المخدرات والبشر إلى الأراضي الليبية.
في الإمارات العربية المتحدة التي تعتبر مقرا لإقامته، يدير محمود عبد الإله الدج دفة مجموعة من الشركات التي تنشط في مجالات السياحة والصناعات التحويلية، ويمتد نفوذه ليشمل مطعم ومنتزه “نسمة شام”، الواقع في قلب العاصمة السورية دمشق، ويعرف عن نفسه بأنه عضوًا ورجل أعمال بجامعة “الدول” العربية منذ 8 من حَزِيران/يونيو 2023 حتى الآن.
في الثاني عشر من آذار/مارس الجاري، ألقت السلطات الليبية الضوء على شحنة مخدرات ضخمة قادمة من سوريا، تحتوي على 16.5 مليون قرص من “الكبتاغون”، مخبأة بعناية في ثلاث حاويات كانت في طريقها إلى السودان.
وتشير التقارير الصحفية إلى أن التجارة في “الكبتاغون” قد ازدهرت بين أوليغارشية سوريا والمناطق التي يسيطر عليها اللواء خليفة حفتر في ليبيًا، متزامنة مع تأسيس شركة “الطير” للتجارة الدولية والشحن، مما يعكس تعقيدات الوضع الإقليمي وتداخلاته الاقتصادية والسياسية.
الدولارات منبع الثروة
في تطور جديد للأحداث الاقتصادية، أقدمت وزارة الخزانة الأميركية على إضافة محمد علي المنلا، القائم بأعمال العمليات الخارجية في بنك “سوريا” المركزي، إلى قائمة العقوبات.
جاء هذا الإجراء على خلفية تورطه بالتعاون مع أليكسي ماكاروف، من الهيئة المالية الروسية، ونائب رئيس مصرف الشركات المالية الروسي (RFC Bank) في عمليات مالية معقدة تهدف إلى تجاوز العقوبات الدولية، بمشاركة شركة “مايا” للصرافة.
في منتصف العام الماضي، وافقت شركة “مايا” للصرافة على التعاون مع الثنائي الروسي والسوري لإتمام مدفوعات لمستفيد في الأردن، مع الحرص على إخفاء أي دلائل تشير إلى مشاركة روسية في هذه المعاملات المالية.
وفي ظل الإجراءات الرقابية الدولية، أُدرجت شركة “مايا” للصرافة، المعتمدة من قبل مصرف “سوريا” المركزي، ضمن قائمة العقوبات الأميركية. إذ تُعرف الشركة بنشاطها في مجالات المعاملات المالية المتنوعة، بما في ذلك تداول العملات الأجنبية وإدارة الحوالات المالية، مع تواجد فعّال في محافظات دمشق، حِمِّص، وطرطوس، وشبكة مراسلين تمتد من موسكو إلى أربيل وعمان.
تأتي هذه الخطوة في سياق توسيع نطاق العقوبات ليشمل شركتي “الفاضل” للصرافة و”الأدهم” للصرافة، اللتان سبق وأن وُضعتا تحت طائلة العقوبات، وذلك على خلفية استمرارهما في إجراء المعاملات المالية التي تُعد مخالفة للقوانين الدولية، بهدف دعم حكومة دمشق والتحايل على العقوبات المفروضة.
شراكة مع الروس
في أيار/مايو 2023، وضعت وزارة الخزانة الأميركية شركة “الفاضل” للحوالات المالية تحت طائلة العقوبات، على خلفية دورها في إجراء تحويلات مالية كبيرة الحجم، تُقدر بملايين الدولارات، لحسابات تابعة لبنك “سوريا” المركزي، المُدرج فعلًا ضمن القائمة السوداء الأميركية.
كما قدمت الشركة تسهيلات مالية لأفراد مرتبطين بميلشيا “حزب الله”، إذ تأسست شركة “الفاضل” في نيسان/أبريل 2015، وتُدار من قبل ثلاث إخوة: فاضل، مطيع، ومحمد بلوي، الذين حصلوا على الإذن الحصري للعمل بالنيابة عن “حزب الله” من خلال مصرف “سوريا” المركزي، المُدرج أيضًا في قائمة العقوبات الأميركية.
وفي سياق الإجراءات الاقتصادية الدولية، أُدرجت شركة “الأدهم” للصرافة ضمن قائمة العقوبات الأميركية، نظرًا لتسهيلها تحويلات مالية كبيرة منذ العام 2021، التي استهدفت حسابات مصرف “سوريا” المركزي. وقد أصبحت هذه الشركة، المؤسسة في آب/أغسطس 2008، فاعلًا رئيسيًا في سوق الصرافة، متخصصة في تداول العملات الأجنبية وإدارة الحوالات المالية، مع تركيز واضح على العمليات المصرفية المحلية.
في تحول ملفت، أُدرج توفيق محمد سعيد علاء، الصراف السوري صاحب شركة “القانون” للصرافة المتمركزة في لبنان، ضمن قائمة العقوبات الأميركية.
تأتي هذه الخطوة على خلفية نشاطه في تحويل العملات المشفرة بالنيابة عن شركة “القاطرجي” السورية، المشمولة بالعقوبات، وكذلك لمسؤولين في ميلشيا “حزب الله” اللبناني، المدرجين أيضًا على لائحة العقوبات، وبينهم محمد جعفر قصير ومحمد قاسم البزال، وسعيد الجمل وشبكته.
وفي سياق متصل، شملت العقوبات أيضًا شركة “إس تي جي” (STG Logistic) الروسية، التي أعادت إيرادات بملايين الدولارات إلى الحكومة السورية نتيجة مبيعاتها الدولية. وامتدت يد العقوبات لتطال شركة “دي واي سي” شركة الشرق الأوسط لتجارة الحبوب الشرق الأوسط (Grains Middle East Trading DWC-LLC)، التي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة وسويسرا مقرًا لها، لدورها كوسيط في تجارة السلع السورية بالنيابة عن “STG”.
تجدر الإشارة إلى أن شركة “STG” الروسية كانت قد أبرمت عقدًا طويل الأمد مع الحكومة السورية في عام 2018، يمتد لخمسين عامًا، يمنحها حقوقًا في نسبة كبيرة من إيرادات المناجم السورية، خاصةً تلك المتاخمة لمدينة تدمر الأثرية في محافظة حِمِّص.
ووفق بعض التقديرات المستقلة، تشكل الطبقة الضعيفة في المجتمع السوري 92 في المئة بينما تشكل الطبقة المستفيدة من عوائد تحالفاتها الاقتصادية مع السلطة تقريبًا من 6 بالمئة إلى 8 بالمئة، وتتكون الأخيرة من 375 ألف عائلة تقريبًا.