يوضع الصومال دومًا على رأس قائمة الدول الأكثر خطورة لممارسة مهنة الصحافة والإعلام في العالم، وفي السنوات الأخيرة كان ضمن أشدّ 10 بلدان خطورة في العالم على العاملين في المجال الصحفي، فكثيرًا ما تعرض الصحفيون للتهديد والاحتجاز، وفي أحيان ليست قليلة للاختطاف والقتل، إلى جانب إغلاق منابرهم ومنصاتهم الصحفية، إلى جانب معاناتهم من كابوس التهديد الذي لا يتوقف، فلا يكاد يشعر صحفي واحد في الصومال أنه في منأى عن الخطر.
وإن كان الأمر هكذا بالنسبة للصحفيين من الرجال، فإن الأمر يكون أكثر فداحة عندما يتعلق بالنساء العاملين أو الراغبين في العمل بمهنة الصحافة، لا سيما أن بلدهم من الدول المعروفة بقسوة القبضة الأسرية على الأبناء خصوصًا النساء، ووفقًا لمؤشر عدم المساواة بين الجنسين التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن الدولة الواقعة في شرق إفريقيا تحتل المرتبة الرابعة قبل الأخيرة في المساواة بين الجنسين.
لكن ورغم كل تلك العوامل المنفرة من العمل الصحفي لما يمثله من خطورة مهددة للحياة، لم تقبل “هندا عبدي محمود” الشابة الصومالية العنيدة، الاستسلام لتلك القيود والقبول بالأمر الواقع، لتنطلق في عملها الصحفي حتى أصبحت الآن على رأس أول فريق إعلامي نسائي بالكامل في الصومال.
مؤخرًا ظهرت هندا ضمن قائمة تضم 100 امرأة ملهمة ومؤثرة من جميع أنحاء العالم لعام 2024، وتم تسليط الضوء على دورها وفريقها المعروف باسم “بيلان” والذي شُكل لمكافحة المعدلات المرتفعة من التمييز الجنسي والتحرش، التي تواجهها النساء الصوماليات، إلى جانب تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية في واحدة من أخطر بلدان العالم بالنسبة للصحفيين.
ولم تكن القائمة هي الظهور البارز عالميًا للفريق، ففي هذا الشهر أيضًا حقق الفريق جائزة حرية الصحافة، وبينما كانت هندا تحتفل بفوز فريقها بالجائزة قررت أن تكون كلمتها تشجيعية للمنصات الأخرى الشبيهة في الصومال “نأمل أن تشجع هذه الجائزة جميع الصحفيات في الصومال على عدم الاستسلام أبدًا ومواصلة الإبلاغ عما يعتقدن أنه مهم”.
هندا التي ولدت في جيجيجا، عاصمة إقليم الصومال في إثيوبيا، وانتقلت إلى هرجيسا عندما كانت صغيرة مرورًا بمراحل التعليم المختلفة حتى درست العلاقات الدولية في جامعة الجيل الجديد في المدينة.
وانتقلت بعد ذلك إلى مقديشو، وكانت مهتمة بالكتابة منذ سنوات، وفي سن العشرين، نشرت كتابها الأول “رعد صومالي”، الذي يتناول أصل شعب الصومال، وهي تعمل حاليًا على كتابها الثاني.
وواجهت صعوبات في نشره كتابها لتقرر أن تتولى هي النشر بنفسها، ودفعت من مالها الخاص ثمن طباعة 300 نسخة.
وعن مدينتها الأولى قالت أن المكان الذي تنفست فيه أنفاسي الأولى، ونشأت فيه هو مدينة هرجيسا، التي أشير إليها غالبًا بأنها مسقط رأسي، إنها المدينة التي قضيت فيها ما يقرب من نصف حياتي وكما أخبرتني والدتي؛ انتقلت أنا وعائلتي إلى هرجيسا خلال الأشهر الأخيرة من عام 1999 وبداية عام 2000”.
الآن وهي في الثامنة والعشرين من عمرها وجدت نفسها على رأس فريق بيلان ميديا الذي تأسس في عام 2022 بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من أجل إتاحة الفرصة لمجموعة من الصحفيات الصوماليات لممارسة الاستقلال التحريري الكامل في اختيار المحتوى وكيفية تغطيتهن للأخبار، ووصلت تقارير الفريق إلى الملايين في داخل السودان وخارجها عبر قنوات الراديو والتلفاز ووسائط التواصل الاجتماعي داخل الصومال التي تديرها “مجموعة دالسان الإعلامية”.
الفريق الذي يتألف من 6 صحفيات يقدم منظورًا مختلفًا عن منظور وسائل الإعلام الصومالية التقليدية والمحلية، والتي تميل إلى التركيز على السياسة والصراع وغيرها من الموضوعات، بينما يسعى الفريق إلى تقديم محتوى له بعد إنساني، كقصص صوماليين مصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، وتقارير عن إساءة معاملة اليتيمات، وتوافر المدارس للأطفال والمدرسين المصابين بالتوحد، والانتشار الوبائي لاستخدام الأفيون بين النساء في مقديشو، وتداعيات الجفاف على النساء والأسر.
ومع الأوضاع الصعبة التي يواجهها الصحفيون في الصومال، اضطر الفريق إلى أن يقوم بتغطية القصص في مجموعات مكونة من شخصين أو ثلاثة، وهي واحدة من التدابير الأمنية التي يتعين على وسائل الإعلام الرائدة أن تتخذها في بلد مثل الصومال.
وواجه الفريق أيضًا تحديات فردية كبيرة حتى أن رئيسة التحرير السابقة اضطرت إلى التظاهر أمام والديها بأنها كانت تدرس تكنولوجيا المعلومات في حين كانت تتلقى دورات في الصحافة.
اقرأ أيضا.. منافسة قطرية تركية في سوريا لجني ثمار اسقاط الأسد
كما تعرضن صحفيات الفريق للإساءة في الشوارع خلال هذا العام بسبب الذهاب إلى العمل أثناء الحمل، واضطرت “شكرية”، أصغر عضوات الفريق لمواجهة ضغوط اجتماعية كبيرة حين قررت مغادرة مدينتها بيدوة لأول مرة للعمل ضمن فريق بيلان في مقديشو.
تحدثت هندا عن تجربتها الفريدة في الصومال “أحب العمل كصحفية لأنني أعتبر نفسي معلمة إلى حد ما، كما أحب أن أكون قدوة للفتيات الصغيرات من جميع أنحاء الصومال وإفريقيا، ليس من السهل أن تكون في الصحافة وتعمل في وسائل الإعلام في الصومال -لأي شخص- ولكننا نحاول أن نبذل قصارى جهدنا، ونحاول تغيير نوع العمل الذي يمكننا القيام به لوسائل الإعلام المحلية”.
وعندما سألت عمّا يميز فريقها قالت “لم يسبق أن ظهر شيء مثل بيلان ميديا في الصومال، وكنا بحاجة إلى فريق إعلامي نسائي بالكامل.. أردنا تغيير المشهد الإعلامي المحلي الذي يركز بشكل أساسي على القضايا السياسية وانعدام الأمن الذي يحدث في البلاد، لذا فهناك فجوة بين ما تغطيه وسائل الإعلام المحلية والمجتمع المحلي، حاولنا سد هذه الفجوة، وهو تغطية قصص القضايا الاجتماعية، كان هذا هو هدفنا الرئيسي، وكان هذا يعني أيضًا إعطاء النساء الفرصة ليكنّ قائدات ويعملن معًا”.
قبل أيام وجهت هندا رسالتها بعد الإنجازات التي حققها الفريق “سنواصل دائمًا العمل الجيد وسنكون قدوة لكل فتاة وامرأة شابة، وللصوماليين، وفي السنوات الخمس المقبلة، نريد أن نرى وسائل إعلام مماثلة تحاول أن تكون مثل بيلان وأن تتاح لها الفرصة”.