روسيا

هل يُغير توغل أوكرانيا في الأراضي الروسية مسارات الحرب؟

نظر روسيا إلى أنها فى الأخير تمتلك أوراقًا تتفوق بها على أوكرانيا، أقربها أنها تغير واقع دونباس بشكل عام، على عكس طبيعة التوغل الأوكرانى الذى يظل فى حدود السيطرة المكانية على مواقع يمكن استعادتها فى نهاية المطاف

تشكل عملية التوغل الأوكرانى فى منطقة كورسك الروسية منذ ٦ أغسطس ٢٠٢٤، نقطة تحول فى مسار الحرب الجارية. فبعد نحو عامين ونصف العام من فشل أوكرانيا فى شن هجوم مضاد فى مسرح القتال الرئيسى بقليم دونباس، نقلت الحرب إلى العمق الروسى. وتراهن كييف على أن يعزز هذا التطور موقفها التفاوضى مع موسكو مستقبلًا؛ ولاسيما إذا عاد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وقرر تغيير السياسة الأمريكية فى هذا الملف باتجاه التسوية ووقف الحرب.

وبحسب المنظور الأوكرانى، يتعين تطوير الهجوم فى العمق الروسى، مع القدرة على الحفاظ على الأراضى التى سيطرت عليها كييف والتمدد منها إلى مساحات أخرى، حتى يمكنها المقايضة على مساحة معادلة من روسيا مقابل دونباس. بيد أن هذه الرؤية تواجه العديد من التحديات، لعل أبرزها مدى سماح القوى الغربية لأوكرانيا باستخدام أسلحتها فى العمق الروسى، وضمان تدفقاتها إليها، بالإضافة إلى التحديات الميدانية فى إطار رد الفعل الروسى على ذلك.

وبشكل عام، فإن قراءة سياق هذا التطور، وتداعياته، واحتمالاته المستقبلية، تنطوى على عدة مؤشرات واعتبارات، وهو ما يمكن تناوله فى سياق هذا التحليل.

معادلة جديدة:

تقليديًا، تشمل ديناميكية أى حرب عاملى الدفاع والهجوم، وأخفقت أوكرانيا منذ بداية الحرب الحالية فى تطوير هجوم مؤثر فى مواجهة روسيا بما يمكن أن يشكل عامل ضغط لدفع موسكو للانسحاب أو الجلوس إلى طاولة التفاوض. وعلى الرغم من تكرار محاولاتها؛ لم تنجح كييف فى تطوير مثل هذا الهجوم، واستمرت فى نطاق العمل الدفاعى، وبررت ذلك بالقيود الغربية على إمدادات واستخدامات الأسلحة الهجومية الاستراتيجية. وقد قدّم حلف شمال الأطلسى «الناتو» لأوكرانيا برامج تدريب وتسليح كفيلة بتحويلها إلى قوة عسكرية غربية، وذلك بعد استهلاك ترسانة الأسلحة الشرقية (السوفيتية) خلال العامين الأولين للحرب. كما شملت عملية إعادة الهيكلة العسكرية بناء قدرات التصنيع العسكرى المحلى، فى ظل تزايد الطلب الغربى على احتياجات الدفاع الأساسية ومحدودية المخزون الاستراتيجى، بالإضافة إلى تفادى المسؤولية القانونية ورد الفعل الروسى حال التورط فى استخدام الأسلحة الغربية.

وعلى الرغم من أن تقارير الصحافة الغربية تتبنى وجهة نظر مفادها أن أوكرانيا لم يكن بمقدورها أن تحقق المفاجأة من دون ضوء أخضر غربى، خاصةً مع اعتمادها على أسلحة مثل: «ستورم شادو» (Storm Shadow)، و«أتاكمز» (ATACMS)، ومقاتلات «إف-١٦» (F-١٦)، بشكل رئيسى؛ فإن المواقف الرسمية الغربية تنفى ذلك، حتى لا تثير غضب روسيا.

لكن فى الوقت ذاته، لم تشر القوى الغربية إلى تمسكها بـ«الخط الأحمر» الذى يمنع أوكرانيا من استخدام هذه الأسلحة، باستثناء ألمانيا التى كانت أكثر حزمًا فى هذا الأمر، وطالبت كييف بعدم السماح باستخدام صواريخ «توروس» (Taurus)، وهو سياق مفهوم بطبيعة الحال؛ كون الصاروخ الألمانى الأطول مدى (يصل إلى ٥٠٠ كيلو متر) فى ترسانة الصواريخ الغربية التى حصلت عليها أوكرانيا؛ يمثل تهديدًا أكبر على روسيا، ولا تضمن برلين رد فعل الأخيرة فى هذه الحالة.

رهانات كييف:

يتمحور المبرر الأوكرانى فى شن هجوم على العمق الروسى بالقيام بعملية استباقية تقطع الطريق على خطة موسكو فى التحرك للسيطرة على كل من سومى وخاركيف شرقًا. كما أن التحرك فى هذه الجغرافيا من اتجاه الشمال الشرقى قد يسمح بالتحام قوات من بيلاروسيا لإسناد القوات الروسية؛ ما قد يشكل تهديدًا للعاصمة كييف؛ ومن ثم فإن أوكرانيا تؤكد أنها بصدد عملية دفاعية فى المقام الأول.

وتكتيكيًا، تراهن أوكرانيا على فكرة مقايضة الأراضى محل السيطرة، فقد احتلت مساحة كبيرة فى العمق الروسى، بالإضافة إلى زيادة المدى النيرانى انطلاقًا من كورسك باتجاه العمق الروسى؛ بما يشكل تهديدًا لمناطق حيوية فى روسيا. مع ذلك قد لا تكون نظرية المقايضة فى صالح أوكرانيا؛ لأنها فى الأخير وصلت إلى السيطرة على نحو ١٣٠٠ كيلو متر من الأراضى الروسية، فى حين أن القوات الروسية تضع قدمها على أكثر بـ٦٥ مرة من مثل هذه المساحة فى دونباس على أقل التقديرات من دون إضافة مساحة القرم.

لكن من الناحية العملية والميدانية، قد تكون هناك اعتبارات أخرى، منها نظرة روسيا لهذا التطور المفاجئ وانعكاساته الداخلية، بالإضافة إلى التهديد الذى شكلته أوكرانيا فعليًا على البنية التحتية واللوجستية الروسية، والتهديد الأوسع الذى يمكن أن تشكله فى حال واصلت هذا المسار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن «معهد دراسات الحرب الأمريكى» استعرض خريطة تضم ما يصل إلى ٢٥٠ موقعًا عسكريًا فى مجال مديات الصواريخ الأوكرانية وحددها بما يناسب كل نوع من هذه القدرات، وفى حدود القدرات الأوكرانية التى تصل إلى ٣٠٠ كيلو متر، إذا لم تستخدم الصواريخ متوسطة وطويلة المدى.

وأعلنت كييف أنها أرسلت وفدًا إلى واشنطن فى أواخر أغسطس الماضى للنقاش حول هذه التطورات والمتطلبات الدفاعية، والأهم من ذلك المتطلبات الاستراتيجية الخاصة بالموافقة على استخدام الأسلحة الغربية عمومًا وليس فقط الأمريكية؛ بحكم أن معظم الأسلحة الغربية بها مكون أمريكى. وفى هذا السياق، يُعتقد أن الموقف الأمريكى هو الحاسم، ليس فقط فى المعارك، ولكن أيضًا بالنسبة لروسيا.

ومن ثم فإن أى رهان أوكرانى سيتوقف فى الأخير على الحسابات الأمريكية؛ وهى مسألة معقدة، وثمة تناقض ما بين صفقات التسلح، ومبررات وحق الاستخدام. فعلى سبيل المثال، هناك تقديرات دفاعية تشير إلى احتمال إطلاق صاروخ «أتاكمز»، الأمريكى، من منصة «هيمارس»، وفى حال صحة ذلك؛ فالمسألة لا تتوقف على عامل الاستخدام من دون موافقة، وإنما على عملية النقل الميدانى من العمق الأوكرانى إلى الأطراف فى المنطقة الشرقية؛ وهو ما يؤكد ضرورة الموافقة المسبقة. ولكن هل يمكن أن تمضى واشنطن مع كييف فى هذا المسار إلى ما هو أكثر من ذلك؟.

ويفتح هذا السياق الباب لتساؤلات عديدة من الصعب الإجابة عنها بشكل قاطع، وفى المقدمة منها، على سبيل المثال، هل كانت واشنطن ترغب فى تحريك الوضع بشكل مختلف لوقف التقدم الروسى فى أوكرانيا؟، خاصةً أن معدلات تسارع السيطرة الروسية فى النصف الأول من العام الحالى هى الأعلى والأسرع منذ بدء الحرب وفق رصد وتحليل خرائط السيطرة؟.

وثمة انطباع ينعكس بشكل واضح فى وسائل الإعلام الغربية يشير إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن ربما تميل إلى استغلال الوقت المتاح لديها، لحين وصول إدارة جديدة تكمل المسار الحالى أو أخرى تنقلب عليه وتبدأ مسارًا مختلفًا.

رد موسكو:

من المُرجح أن روسيا استوعبت مفاجأة كورسك، وفى غضون أسبوعين من التوغل الأوكرانى بدأت فى التحركات التكتيكية المضادة ميدانيًا وسياسيًا بشكل متزامن ومتشابك، على نحو ما يمكن الإشارة إليه فى النقاط التالية:

١- اتجهت موسكو إلى تركيز ثقل الجهد العسكرى فى دونيتسك، والسيطرة على منطقة بوكروفسك ذات الأهمية الاستراتيجية، وفقًا لحسابات موسكو باعتبارها بوابة الإقليم، إضافة إلى أهميتها اللوجستية كخط إمداد رئيسى للجانب الأوكرانى فى تلك الجبهة. وفى مقابل ذلك، قامت القوات الأوكرانية بانسحاب متدرج من بوكروفسك. وتشير التقديرات الأوكرانية التى تستند إلى الموقف الميدانى إلى تراجع القيمة الاستراتيجية لبوكروفسك؛ كونها تشكل تحصيلا حاصلا للسيطرة الروسية. لكن هذا التقدير قد لا يعكس الواقع؛ إذ قد يكون المغزى الأكثر واقعية هو أن أوكرانيا بالفعل حشدت جهدها العسكرى الرئيسى لدعم مسار التوغل فى الأراضى الروسية، كما أنها ربما تدرك أن روسيا تناور بعملية بوكروفسك لدفعها للانسحاب أو تشتيت الجهد العسكرى؛ لذا لا تفضل الاستجابة للاستدراج الروسى.

٢- لم تستخف روسيا بالمفاجأة الأوكرانية؛ بل على العكس كانت تحركاتها منظمة لاستيعاب المفاجأة، من عمليات الإجلاء السريعة للمدنيين، وإخلاء العديد من القواعد التى قد تصبح هدفًا مكشوفًا، ومع ذلك تكبدت الكثير من الخسائر، ثم بدأت فى رد الفعل الهجومى لوقف التقدم الأوكرانى لكن بشكل متباطئ. وترجع حسابات هذا التباطؤ الروسى إلى عامل استيعاب المفاجأة، لكن ثمة تقديرات عسكرية ترى أن التكتيك الروسى ممنهج؛ بهدف إفشال المبرر الدفاعى لأوكرانيا، وتبرير حجة الانتقام الروسى بالرد فى العمق الأوكرانى؛ ولاسيما المنطقة الغربية، التى استهدفتها موسكو على نطاق بنك أهداف واسع ولإخراج البنية التحتية واللوجستية عن الخدمة مثل: محطات الطاقة والوقود والمياه، على نحو ما فعلت كييف فى النطاق الروسى.

٣- لجأت موسكو إلى ورقة التهديد النووى، فمن جهة سلطت الضوء على تداعيات التوغل الأوكرانى على محطة كورسك النووية بما يشكل تهديدًا، خاصةً مع سقوط طائرة من دون طيار فى الموقع وتحميل كييف المسؤولية عن ذلك. ومن جانب آخر، أعاد مسؤولون ومحللون روس تسليط الضوء على مراجعة العقيدة النووية، وإذا كانت المراجعات السابقة تُمكن روسيا من اللجوء للخيار النووى حال تعرض البلاد لخطر وجودى، فما هو الحال فى ظل انتقال المعركة إلى الأراضى الروسية نفسها؟، ومن غير المُرجح أن تغامر موسكو باللجوء للسلاح النووى، وسيبقى مجرد بند فى قائمة الردع تحسبًا لتطورات أكثر صعوبة فى مواجهة حلف «الناتو» والقوى الغربية.

مسارات قادمة:

على الأرجح، يتمثل التكتيك الرئيسى للقوى الغربية فى تحريك أوكرانيا للجبهة الروسية بشكل يؤثر فى موسكو، ويدفعها إما إلى وقف الزحف المتسارع فى دونباس، أو الجلوس إلى طاولة التفاوض. ومع ذلك ترفض روسيا هذه الطريقة (سلام زيلينسكى)، فى إشارة إلى موقف الرئيس الأوكرانى وأهدافه من هذا التحرك؛ ومن ثم فإن السيناريو الأقرب للواقع هو أن عملية التوغل الأوكرانية قد تكون مؤقتة، وقد تضطر كييف للاستدارة مرة أخرى لحماية خطوطها الخلفية، بدلًا من الاندفاع إلى المزيد من التقدم المساحى دون ضمانات أو تغطية كافية من الحلفاء؛ وهو ما سيتضح فى ضوء الزيارة التى قام بها وفد عسكرى أوكرانى إلى واشنطن فى أواخر شهر أغسطس المنقضى.

من جانبها، تدرك القوى الغربية تكلفة الاستمرار الأوكرانى فى عملية التوغل داخل روسيا، وإن كان لا يوجد موقف غربى موحد للهجوم داخل الأراضى الروسية، فقد سبق وأشارت فرنسا إلى الموافقة، وبدرجة أقل بريطانيا، فى حين حاولت ألمانيا كبح هذا الاتجاه. وإجمالًا تتخوف القوى الغربية من أن تتحول عملية التوغل الأوكرانية إلى مغامرة غير محسوبة.

فلا شك أن تركيز الجهد العسكرى الأوكرانى على التوغل فى العمق الروسى قد يحقق أهدافًا تكتيكية عديدة، لكن تحديات الصمود، والقيود على تدفقات الأسلحة، ورد الفعل الروسى، كل ذلك قد يأتى بنتائج عكسية. كما أنه لا يمكن لأوكرانيا المُضى منفردة فى هذا السيناريو، ولا يمكنها أيضًا الاستعاضة عن التسليح الغربى بالتصنيع المحلى، بالرغم من الحديث عن امتلاك قدرات معادلة مثل صاروخ «غروم» (Groom). والعامل الآخر أنه باستثناء صاروخ «أتاكمز»، الذى لا تمتلك أوكرانيا مخزونًا كبيرًا منه، سيتعين عليها الحصول على المزيد من مقاتلات «إف-١٦» كمنصات إطلاق للأنظمة الأخرى التى تُطلق جوًا، هذا بافتراض أنها حصلت على ضوء أخضر فى الأساس.

فى المقابل، لا يمكن تجاهل حجم التكلفة الهائلة على روسيا، مع اللجوء إلى استخدام أسلحة عالية القدرة والكفاءة مثل: «كينجال» و«إسكندر»، والتى تستخدمها موسكو بشكل اضطرارى ومحدود، بالإضافة إلى عملية التعبئة الواسعة للقوات للتحرك على أكثر من موقع. لكن تنظر روسيا إلى أنها فى الأخير تمتلك أوراقًا تتفوق بها على أوكرانيا، أقربها أنها تغير واقع دونباس بشكل عام، على عكس طبيعة التوغل الأوكرانى الذى يظل فى حدود السيطرة المكانية على مواقع يمكن استعادتها فى نهاية المطاف، فضلًا عن ميل معادلة مساحات السيطرة لصالحها؛ ومن ثم لا يتعين عليها تقديم تنازل كبير لكييف أو النزول عند رغبتها فى المقايضة.

الخلاصة، أنه على الرغم من محاولة كل طرف إعادة ضبط قواعد الحرب الروسية الأوكرانية لصالحه، لا توجد ضمانات فى الحروب، وقد يفتح هامش الخطأ الباب على سيناريوهات أسوأ، طالما أنه لا يمكن التحكم فى قواعد اللعبة فى مباراة تُستدعى فيها نذر حرب عالمية ثالثة «حرب نووية»، حتى وإن كانت معطيات الواقع تقول إن المشهد لم يتدهور بعد إلى ذلك الحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى