سورية ليست أفغانستان، لا من ناحية الجغرافيا السياسية، ولا على صعيد البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع.
وأيًّا تكن الأسباب وراء سقوط نظام بشار الأسد، أو أيّ تحليل أو تفسير في إطار ذلك، وكذلك أيًّا تكن صياغة نظريات المؤامرة التي تشرح سقوط الأسد بهذا الشكل السريع، وفي خارج جميع التوقعات للمحللين والمراقبين ومراكز الدراسات، وحتى بالنسبة إلى أروقة العديد من مخابرات الدول المختلفة، فهناك حقيقة واحدة تفرض نفسها: أنَّ تسونامي سياسياً هو الذي عصف بالمعادلة السياسية في الشرق الأوسط، بعد زلزال السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في عملية حماس على غلاف غزة.
الجغرافيا السياسية والبنية الاجتماعية والثقافية لسورية عائقان أمام السياسة الأميركية في تسليم سورية إلى الإسلام السياسي، كما سلّمت أفغانستان إلى طالبان قبل ثلاث سنوات، أو كما حاولت تمرير مشروعها في احتواء الثورتين التونسية والمصرية وهبوب نسيمهما على المنطقة بتفويض الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين في حكم المنطقة، أو بإطلاق العنان لأجنحته مثل داعش والقاعدة، للعبث بأمن وسلامة الجماهير، كما حدث في سورية والعراق وليبيا واليمن.
صحيح أنَّ الدول الغربية، وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وبالتعاون والتنسيق مع المخابرات التركية، قد قدّمت كل أشكال الدعم للجماعات الإسلامية من كل حدب وصوب في سورية منذ عام 2011، لكن تداعيات ذلك الدعم ارتدت على عمق تلك الدول عبر العشرات من العمليات الإرهابية، وخلقت حالة من عدم اليقين والفوضى ليس على صعيد المنطقة فحسب بل على صعيد العالم برمته، فضلاً عن تدفق ملايين اللاجئين الذين ملأوا بلدان المنطقة والقارة الأوروبية.
أي بشكل آخر نقول: لا الدول الغربية المذكورة تريد إعادة تلك التجربة، ولا بلدان المنطقة تريد الخوض فيها من جديد، بما فيها تركيا التي لعبت دوراً محورياً في دعم الجماعات التي وصلت إلى دمشق اليوم.
إنَّ الجغرافيا السياسية تلعب عاملاً مهماً في عدم خطف سورية وجماهيرها من قبل “هيئة تحرير الشام” أو أيَّة جماعة إسلامية مثلها، فمصر والسعودية والإمارات لن تبلع بسهولة حكم “الإخوان المسلمين”، كما أنَّ تركيا لا تريد بأي حال ولا من مصلحتها اللعب بالنار وتعكير صفو علاقتها مع تلك الدول التي توسلت كثيراً من أجل إعادة العلاقة معها. وقد فعلت تركيا الكثير في ميدان “المكياج” الذي اشتهرت به مسلسلاتها الدرامية، واجتاحت الأسواق العربية وبلدان المنطقة من أجل تسويق أبو محمد الجولاني زعيم ما سُمي “هيئة تحرير الشام”. فالموضة التي خرج بها الجولاني (أحمد الشرع) مؤخراً عبر فيديو يدعو الشعب السوري للاحتفال بسقوط نظام الأسد في يوم الجمعة المصادف 13 كانون الأول (ديسمبر) 2024، حيث كان يتزين بزي غربي أنيق، هي من صنع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ورئيس مخابراته، اللذين كانا في زيارة إلى دمشق عشية إطلاق الجولاني لكلمته.
أمّا العامل الآخر الذي يحول دون استبدال الجولاني بالأسد، فهو البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع السوري. صحيح أنَّ هناك تراجعاً كبيراً في المجتمع السوري بسبب الحرب وإطلاق العنان لكل الأفكار الرجعية والدينية لتسهيل السيطرة على المجتمع، سواء من قبل النظام الاستبدادي والفاشي القومي الراحل في سورية أو على صعيد الجماعات الإسلامية، إلا أنَّ تجذر المدنية والتحضر والعلمانية يضرب عمق التاريخ السوري. وتجربة العراق تعلمنا ما نتحدث عنه، فبالرغم من الحروب والحصار الاقتصادي والغزو والاحتلال، إلا أنَّ سلطة الأحزاب الإسلامية والميليشيات بدعم إيران والولايات المتحدة الأميركية لم تستطع لحد الآن أسلمة المجتمع وقلع جذور المدنية والتحضر منه لحسم السلطة السياسية لصالح الإسلام السياسي.
بيد أنَّ العاملين الموضوعيين المشار إليهما آنفاً لا يعنيان عدم انزلاق المجتمع السوري إلى مستنقع “هيئة تحرير الشام”، التي تحاول تركيا تشذيب لحية رئيسها الجولاني وإلباسه بدلة مدنية ورباط عنق مثل باقي أعضاء حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، ولا يعني عدم احتدام الصراع على السلطة لحد اندلاع حرب أهلية جديدة. فهناك قوى إقليمية أخرى، مثل إسرائيل، التي لديها مشروعها المغاير كلياً للإجماع الدولي وبلدان المنطقة، ومشروع تقسيم سورية إلى فدراليات قومية وطائفية في أفضل الأحوال، أو دعم الفوضى وعدم الاستقرار بما يخدم مصالحها الاستراتيجية ومشروعها للشرق الأوسط الجديد.
وعلى الطرف الآخر تقف إيران التي يتلقى نفوذها الضربات تلو الأخرى دون إعطائها الفرصة لالتقاط أنفاسها ولملمة جراحها. ويمكن أن يكون لها دور فاعل في إشاعة الفوضى في سورية، فهي تمتلك تجربة غزيرة في إشاعة الفوضى والإرهاب في العراق أيام الغزو والاحتلال الأميركي، إذا ما تأكدت أنَّ كل شيء ضاع منها، كي تتمكن من ابتزاز الأقطاب الإقليمية والدولية في ترتيب أي معادلة سياسية في المنطقة.
إقرأ أيضا : تركيا وسوريا الجديدة.. مكاسب كبيرة وتحديات مقلقة
إلا أنَّ هناك مسألة قد تكون حاسمة بالنسبة لوضع سورية وحتى المنطقة، وهي إنَّ توقف دعم الغرب للإسلام السياسي سيلعب دوراً أيضاً في مساعدة المجتمع السوري بعدم الانزلاق إلى مستنقع الإسلام السياسي والحرب الأهلية. فالإسلام السياسي وجماعاته تتغذى أبداً على عوز الجماهير والفقر والفوضى ودعم الغرب وعدد من دول المنطقة لميليشياته. فعلى سبيل المثال، فإنَّ “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة – القاعدة) قدّمت نموذجاً سيئاً للسلطة في محافظة إدلب في سورية التي تسيطر عليها، وزنازينها لحد اللحظة مليئة بالمعارضين السياسيين لها، وما زالت أيادي قادتها حتى الأمس، وعلى رأسهم الجولاني، ملطخة بالدماء. بيد أنَّ الولايات المتحدة الأميركية لم تحرك ساكناً سوى وضعها على قائمتها للإرهاب، مثلما تحركت تجاه داعش في تصفية قادتها.
ما نريد أن نقوله هو أنَّ الإسلام السياسي لن تقوم له قائمة دون دعم الغرب بالدرجة الأولى له.
وعلى الجانب الآخر، يجب أن تلعب القوى العلمانية والمدنية والتحررية في المنطقة والغرب وفي جميع دول العالم دوراً في دعم إعادة تنظيم المدنية والدفاع عن القوى العلمانية والتحررية في المجتمع السوري. وعليها أن تكون صوتاً وصدى للقوى التي تنزع نحو المساواة والحرية في المجتمع السوري.
إنَّ انتصار التحرر هو انتصار لنا جميعاً في المنطقة، وهزيمة الإسلام السياسي، أي يكن منبعه الطائفي، وإحباط مشروعه يفتح لنا نافذة أمل ويرسم خطوة نحو التحرر والمساواة. علينا السعي والنضال من أجل إحباط محاولات تلك القوى الإسلامية التي تحاول تنظيم صفوفها وإعادة تأهيلها مثل داعش والقاعدة، سواء المدعومة من الجمهورية الإسلامية في إيران وخاصة في العراق الذي سيكون محطة انطلاق جديدة، أو التي تحاول تلطيف صورتها عبر تشذيب لحى قادتها وتلطيف صورتهم وإلباسهم ملابس مدنية وتسويقهم لدى المجتمع السوري. حينها فقط، يمكن الحديث عن بدايات ثورة سورية حقيقية.