هل ينجح العراق في الخروج من العباءة الإيرانية ؟
هناك شعور لدى شريحة واسعة من العراقيين أنّ أحداث المنطقة ستقود إلى تغيير حتمي في العراق، خاصّة فيما يتعلّق بالسيطرة والنفوذ الإيرانيين في بلادهم
تتدحرج كرة الثلج بصورة سريعة ومرعبة، وهي ترسم في طريقها مساراتٍ عدّة، وخرائط أخرى غير التي عهدناها، لشرق أوسط لا يبدو أنّه سيشبه نفسه بعد حين من الزمن، فما جرى منذ “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023)، لن يكون أكثر من بدايةٍ لحقبة جديدة يُراد لهذه المنطقة أن تدخلها، وقد لا نبالغ إن قلنا إنّها تشبه إلى حدّ كبير “سايكس – بيكو”. ورغم محاولات الحكومة برئاسة محمد شيّاع السوداني لتحييد العراق عن صراع المنطقة، إلّا أنّه حتماً سيكون التالي في جدول أهداف التغيير المرادة لهذه الشرق الأوسط، خاصّة أنّه ضمن “محور المقاومة ” بقيادة إيران. وفي إيران يكمن السرّ أيضاً. يتابع العراقيون ما يجري في المنطقة، والسؤال الأكثر إلحاحا بالنسبة إليهم: أين نحن ممّا يجري؟ وهل فعلاً هناك نيّةٌ لتغييرات سياسية واسعة في العراق؟ وكيف ستأتي هذه التغييرات، وممّن؟
تمثّل إيران لشريحة واسعة من العراقيين النفوذ الأكثر إزعاجاً، فهي ليست متحكّمة بالمشهد السياسي العراقي فقط، بتداخلاته كافّة، وإنّما أيضاً متحكّمة حتّى بتوجّهات البلاد وسياستها الخارجية، وهو ما لم يعد خافياً على أحد، فلا حكومة من دون موافقة إيرانية، ولا نهج لهذه الحكومة من دون أن يكون متوافقاً مع مصالح إيران. ليس سرّاً القول إنّ العراق، ومنذ احتلاله أميركياً في عام 2003، بدأ شيئاً فشيئاً يتحوّل حديقةً خلفيةً لإيران، وليس سرّاً أيضاً أنّ هذا ما كان يمكن أن يكون لولا ذلك التواطؤ الأميركي المفضوح، ولعلّ ما كشفه أخيراً مؤسّس شركة بلاك ووتر الأميركية، التي كانت الذراع الساندة للجيش الأميركي في العراق، يدلّل على ذلك. يقول مؤسّس الشركة، إريك برنس، في مقابلة مع موقع تلفزيون فلاد، إنّه عقب الغزو الأميركي للعراق وضع، بالتعاون مع رئيس جهاز المخابرات العراقية الأسبق محمد الشهواني ونُخْبَةٍ من فريق “سي آي إيه”، سيناريو لوقف التمدّد الإيراني في العراق، غير أنّ المفاجأة الكبرى أنّ وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، كوندوليزا رايس، طالبتهم عام 2005 بوقف هذه العملية، مُؤكّدةً لهم أنّ الإيرانيين “ليسوا أعداءً لنا في العراق”، الأمر الذي أجهض العملية.
ولعلّ من المفيد أن نتذكّر، ونُذّكر القارئ ببعض أدوار لعبتها إيران في العراق، وكيف أنّها أضحت الحاكم الفعلي للبلد، حتّى مع الوجود الأميركي قبل عام 2011، فهي التي كانت تعيّن رئيس الحكومة بالتوافق مع الأميركيين، وهذا ما تحدّث به سفير واشنطن الأسبق في العراق، زلماي خليل زادة، وهي التي اعترضت على تولّي إياد علّاوي منصب رئاسة الحكومة بعد انتخابات عام 2010، التي حصلت فيها القائمة العراقية بزعامته على المركز الأول، بل وصل الأمر إلى أنّ دخول أيّ شخص العملية السياسية، خاصّة إذا كان له موقف معارض سابق، لا يتم إلّا من خلال النافذة الإيرانية.
يدرك العراقيون جيّداً أنّ بلدهم تحت احتلال إيراني غير مباشر، بل لعلّه أكثر وطأة من ذاك المباشر الصريح؛ كما فعلت أميركا، ويدركون أيضاً أنّ إيران صادرت القرار العراقي بشكل شبه كامل، من خلال تدخّلها في رسم السياسة العراقية وتشكيل الحكومات والانتخابات، وهو ما دفع متظاهري ثورة تشرين أول (2019) إلى مهاجمة وحرق القنصليات الإيرانية في مدن الجنوب.
هناك شعور لدى شريحة واسعة من العراقيين أنّ أحداث المنطقة ستقود إلى تغيير حتمي في العراق، خاصّة فيما يتعلّق بالسيطرة والنفوذ الإيرانيين في بلادهم، من خلال القوى السياسية والفصائل المسلّحة. إيران المحاصرة اليوم من إسرائيل وأميركا تعرف جيّداً أيضاً أنّ العراق درَّة تاج إمبراطوريتها غير المعلنة، التي تمتدّ من بغداد وصولاً إلى لبنان، مروراً بسورية حتّى اليمن. وبالتالي، لن يكون التخلّي عن نفوذها هناك بالأمر الهيّن، ولكن ما الضير إذا كان ذلك سيُبقى النظام ويطيل عمره؟
توازن إيران اليوم بين خياراتها، تلك المطروحة على الطاولة من أعدائها، أو حتّى التي لم تُطرح بعد، فالضربة الإيرانية على إسرائيل كانت ذات دلالة كبيرة، بغضّ النظر عن حسابات ما حقَّقته من أهداف، يكفي أن تصل الصواريخ الإيرانية إلى تلّ أبيب، ضربة موجعة لا يبدو أنّ بنيامين نتنياهو وفريقه اليميني يقبلون أن تمرّ مرور الكرام، لا بدَّ من ثمن تدفعه إيران.
إقرأ أيضا : من لبنان إلى العراق.. لماذا حروبهم بالنيابة؟
ثمّ جاءت عملية استهداف منزل نتنياهو في قيساريا (فجر السبت الماضي) بطائرة مُسيَّرة، لتعطي حكومة اليمين المتطرّف في إسرائيل مزيداً من الذرائع لاستهداف إيران وضرب أذرعها في المنطقة. ولعلّ في جولة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، التي وصلت إلى عواصم لم تدخلها الدبلوماسية الإيرانية منذ 13 عاماً، ما يوحي باستشعار الخطر الكبير لدى الإيرانيين، والاستعداد لتقديم تنازلات من أجل تجنيب طهران ضربة تؤدّي، ليس إلى تدمير منشأة هنا أو هناك فقط، وإنّما أيضاً إلى خلخلة أركان النظام، الذي يدرك قبل غيره هشاشة جبهته الداخلية أمام أيّ تحدٍّ حقيقي.
انكفاء إيران على نفسها، وتخلّيها عن نفوذ ساحق في العراق، سيعني أيضاً، وبمرور الزمن، تآكل النظام من الداخل، خاصّةً إذا ما قرّر الغرب فرض عقوبات اقتصادية جديدة، فالعراق مثَّل لسنوات خلت رئةَ إيران التي يتنفَّس منها اقتصادها، وتدرّ عليها الملايين من الدولارات.
ربّما تكون الفرصة سانحة لإعادة “تشرين” العراقي، وتجدّدها، خاصّة أنّ النظام السياسي في العراق اليوم يشعر بالخطر الكبير. بالتالي، فإنّ ثورةً شعبيةً تشرينيَّةً يمكن لها أن تدفع باتجاه تغيير من الداخل، تغيير لا يخضع كثيراً لمبضع الخارج، الذي جرّبه العراقيون سابقاً وكان وبالاً عليهم أكثر من عقدَين.