منذ خمسينيات القرن الماضي حتى أشهر قليلة والشعب السوري يدفع فواتير الجيش والتسلح، التي لم تجد نفعاً في يوم واحد من تاريخ سوريا المعاصر، سيما في الميدان الذي وجدت من أجله أصلا، وهو الدفاع عن البلاد ضد العدو الصهيوني، بل كان هذا التسلح وبالا على الشعب السوري مرتين، مرة حين كان تمويل التسلح يقتطع من لقمة عيش الفقراء بالدرجة الأولى، ومن الضرائب التي لم تكن تحتملها أي طبقة صناعية كانت أم زراعية أم تجارية، الأمر الذي كان عقبة كأداء أمام أي مشروع تنموي طالما حلمت به الطبقة المتوسطة، والثانية أن هذا السلاح استخدم وبمنتهى العنف والتوحش ضد شعب أعزل طالما دفع أثمان هذا السلاح لحكومة كان يأمل أن تحميه ذات يوم فكانت قاتلته.
بالنظر الأولي إلى بناء قوة مسلحة لمواجهة عدو محدد أو محتمل، ينبغي أن تكون هذه القوة مكافئة أو مقاربة لقوة العدو ولو بشكل تقريبي، أو قادرة على ردع تغوله، وإلا كان هذا السعي ضربا من ضروب العبث والانتحار، كذلك ينبغي التزود بالسلاح من جهة حليفة، مستقرة بعلاقتها مع البلد المتزود وإلا كان هذا التزود وتلك المليارات المهدورة عرضة للتعطيل التام، في حال توقف المزود عن إمداد المتزود بقطع الغيار والذخيرة والتحديثات اللازمة، وهذه المعضلة واقعة في الحالة السورية، التي كانت فيها روسيا البلد الرئيسي في إمداد السلاح، وبالتالي المتحكم المطلق في أي سياسات تتعلق بهيمنته على المشهد السوري، وقد لمسنا كشعب سوري عقابيل هذا التحكم والتدخل المدمرة، فقد حولت قطاعات واسعة من الشعب السوري، ومن الجغرافيا السورية التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، إلى حقل تجارب للسلاح الروسي الجديد، وطالما تبجح الرئيس الروسي وتفاخر عبر أجهزة إعلامه أنه اختبر عشرات أو مئات الأسلحة الحديثة في سوريا.
اليوم وبعد أن دمرت القوات الإسرائيلية معظم السلاح السوري وبتواطؤ وخيانة مكشوفة مع رأس النظام المخلوع، لم تعد روسيا بلدا ضروريا لتزويد السوريين بالسلاح والذخيرة، وبات أمام السوريين خيارات مختلفة عن سابق عهدهم، هل سيبدأ السوريون رحلتهم الوعرة ببناء جيش مواجه للعدو التاريخي “إسرائيل” من الصفر بعد أن دمر جيشهم وسلاحهم؟ وهل نستطيع تقدير كم المليارات اللازمة لذلك؟ وهل باستطاعة الشعب السوري الذي يقبع كله اليوم تحت خط الفقر أن يقدم من لقمة عيشه واحتياجاته الأساسية المفرطة بالتواضع كيما يلبي موازنة التسلح؟ أسئلة في منتهى الصعوبة وربما يقترب بعضها أو معظمها من الاستحالة.
هل هناك دول سبقتنا بالتنحي عن خيار التسلح والخروج من هذا الاستنزاف المقيت وغير المجدي واهتمت بالتنمية ونجحت في ذلك؟ بالطبع يمكننا تقليب وجوه الحاضر والإفادة من تلك التجارب، وتجنيبنا والأجيال القادمة من هذه المؤونة المدمرة، وبدل هذا سيكون من المتاح للسوريين بناء نظام أمن داخلي محترف ومزود بأحدث التقنيات ليحمي السوريين من كثير من السوريين الذين شوهتهم سنوات الحرب فحولتهم لقتلة لا يتخيلون العيش من دون سلاحهم، ومدمني مخدرات وتجار ممنوعات وقطاع طرق وليس هذا محض تخيل ترِف، فهؤلاء اليوم يفتكون بالشارع السوري وينتهزون فرصة غياب القوة الوطنية التي ينبغي أن تردعهم.
إقرأ أيضا : التقارب بين سوريا ولبنان : ضرورة إقليمية
بعيد الحرب العالمية الثانية، وخروج اليابان دولة مهزومة ومنكسرة ومكبلة بعقوبات ومعاهدات ترهقها تبنت دستورًا سلميًا في عام 1947، والذي يمنعها من بناء قوات هجومية أو اللجوء إلى القوة العسكرية لحل النزاعات التي يمكن أن تنشأ إقليميا أو دوليا “المادة رقم 9 من الدستور الياباني” واكتفت ببناء قوة دفاع وطنية (JSDF) واليوم تتربع اليابان على عرش كبريات الدول المصنعة والمصدرة وفي قائمة كبرى اقتصادات العالم.
كذلك كوستاريكا وبنما وآيسلاندا، وتعد سويسرا نموذجا مختلفا قليلا لكنها لا تعتمد على سباق التسلح بل تكتفي بسياسة الاحتياطيات، وتلتزم الحياد وعدم المشاركة بالنزاعات أو التحالفات العسكرية. ولن يتوقف الأمر عند هذه النماذج على ندرتها، بل يمكن اجتراح حلول جديدة تفي بضرورات الحالة السورية ويمكن تطوير قوانين دولية وتفعيل قوانين سابقة وبناء تحالفات ومعاهدات تحمي البلدان الهشة والضعيفة من اعتداءات خارجية وليس هذا بالخيال، فهناك دول عربية عديدة لا تمتلك قوات مسلحة تحميها من بعض جيرانها، ومع هذا نجدها في طليعة البلدان المستقرة والتي تنتج تنمية وطنية لا تخفى على ناظر.
هل سيكون بمقدور العهد السوري الجديد اليوم والذي ورث تركة من الدمار تنوء بها كبريات الدول والتي تحتاج للنهوض بها إلى نقطة الصفر ما يربو على خمسمئة مليار دولار وفق أرجح التقديرات، والتي من المحال التحصل عليها من دون مشروع مارشال عربي وربما دولي، ولن يرحب هؤلاء الداعمون بهدر موازناتهم لبناء جيش سوري غير مؤهل للدفاع أصلا وإذا علمنا أن الإنفاق العسكري الإسرائيلي بلغ عام 2023 ما يزيد على 27 مليار دولار، هذا علاوة على الدعم الأميركي والأوربي المنقطع النظير، سنكتشف أن المضي في خيار التسلح هو خيار عبثي ومدمر ولا طائل منه إلا إبقاء الشعب السوري دون خط الفقر لعقود مجهولة.
من الصعب جدا القبول بهذا الخيار الانسحابي والذي سيرفضه كثير من القوميين والإسلاميين وغيرهم لتعارض هذا الطرح مع العقيدة المقاومة، لكن خيار المضي في سباق التسلح سيدمر المقدرات السورية من دون أدنى ريب.
هل سيكون التطور العلمي والأخلاقي القادم خادما لهذه التوجهات السلمية ومعززا لصعودها؟ بدل الحروب التي تفتك بالأمم وتستنزف المقدرات ويتسيد عبرها المتوحش الأقوى، سؤال وأمنيات طيبة برسم انتظار مستقبل أفضل للبشرية جمعاء، مستقبل يكون فيها صوت الحكمة والعدل متفوقاُ على صوت البارود.