انتخاب باسيرو ديوماي فاي، مرشح المعارضة الذي يحظى بدعم عثمان سونكو، زعيم حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” (PASTEF) من داخل السجن، رئيساً للسنغال يشكل إشارة قوية إلى أن البلاد تجتاز مرحلة من التغيير العميق وغير المسبوق على الصعيدين الداخلي والإقليمي.
كان الرئيس السنغالي المنتهية ولايته ماكي سال، يخطط لانقلاب دستوري بمباركة فرنسية وغربية للبقاء في الحكم، ثم أراد بعد ذلك تأجيل موعد الانتخابات إلى نهاية العام الجاري، ولكن مؤسسات الدولة رفضت وأجبرته على الذهاب للانتخابات التي كانت مقررة في شهر أبريل/نيسان القادم.
زلزال إقليمي
وفي هذا السياق شددّ الرئيس المنتخب على إعادة التفاوض حول اتفاقيات الغاز والنفط والصيد والتعاون الدفاعي مع فرنسا، واتباع عقيدة جديدة في العلاقات التاريخية بين البلدين: قائمة على الندية والاحترام، أي بداية عهد جديد يسوده مفهوم السيادة والاستقلالية، ومن ثم تبني مبدأ تنوّع الشركاء؛ متخلياً عن النهج القديم، كما وعد بالتخلي عن عملة الفرنك الأفريقي، المرتبطة باليورو والمدعومة من قبل فرنسا، معبراً عن رغبته في إحلال عملة سنغالية جديدة أو عملة إقليمية غرب أفريقية مكانها، كما دعا قادة كل من النيجر، ومالي، وبوركينا إلى الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس-ECOWAS)، بسبب ما يعتبره تأثيراً فرنسياً على المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومن ثم فإن انتخاب باسيرو ديوماي فاي يعد خطوة في القطيعة مع الحلفاء التقليديين لدول منطقة الساحل الغربي.
على الصعيد شبه الإقليمي يمهّد لتشكيل فضاء جديد في الإقليم يتكون بالأساس من الدول التي تشهد حراكاً سياسياً واجتماعياً وتحولات أمنية وعسكرية في سياقات تنافس القوى الكبرى والإقليمية على النفوذ بالمنطقة، مما يسبب نكسة استراتيجية لفرنسا ونهاية العلاقات المنبوذة (Françafrique) في المنطقة.
على رغم التحديات الكبيرة التي قد تواجه هذا التحوّل السياسي المزلزل في منطقة غرب أفريقيا، يعتبر الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي، المتشبع بالأفكار البان-أفريقية Pan-Africanism التقدمية ، بل وُصف أيضاً بأحد أصوات الإسلاموية العالمية Pan-Islamism- أي “إسلامي”- من طرف الإعلام الفرنسي المتغطرس؛ لكون الرئيس المنتخب متديناً.
كما يبقى عامل التغيير في السنغال الذي قام به كل من عثمان سونكو زعيم حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة”، وزميله الرئيس المنتخب في الانتخابات الرئاسية باسيرو ديوماي فاي، ثورةً سلميةً لم يعتدها بلد أفريقي. سطع نجم هذين الزعيمين المحافظين المثقفين بين السنغاليين منذ سنوات، نتيجة أفكارهما الثورية ضد الفساد والتهميش، والمناهضة للهيمنة الفرنسية والغربية عموماً في المنطقة التي كانت دائماً تدفع إلى مزيد من التفرقة العرقية وإشعال الفتنة والصراعات القبلية بين المكوّنين القبلي والعرقي في البلاد.
النموذج السنغالي
كلاهما يطالب بإنهاء سياسة فرنسا الاستغلالية، والتحرر من القبضة الغربية الاستعمارية من أجل تحرير اقتصاد السنغال وأفريقيا من فرنسا والغرب عموماً، عبر تخلُّص السنغال من الفرنك الأفريقي (CFA) بعملة محلية، والخروج من النظام النقدي للفرنك الفرنسي (CFA). هذه الانتقادات وضعت سلطة الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، على المحك، فقرر قمع ووقف زعيم حزب المعارضة عثمان سونكو، بجميع الوسائل وطرده من الوظيفة العمومية، ومنع تجمعاته الخطابية، وتجريده من حقه الدستوري.
عندها دخل زعيم حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” عثمان سونكو، في نفق آخر، مشكلة مع العدالة بسبب تهمة الاغتصاب التي أراد الرئيس ماكي سال أن يتخلص منه قضائياً من خلالها، بعد فشله سياسياً بتهمة الإخلال بتهمة أخلاقية، مما أدّى إلى اعتقال عثمان سونكو وحدوث اشتباكات بين الشرطة والطلاب المتظاهرين بالعاصمة السنغالية داكار وفي مدن أخرى بالبلاد.
وفي 4 مارس/آذار 2021 نظم السنغاليون في نيويورك احتجاجاً أمام مقر الأمم المتحدة؛ للمطالبة بإطلاق سراح زعيم حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” عثمان سونكو، من السجن دون قيد أو شروط، كما طالب محامو عثمان سونكو الحكومة بوقف التهديدات ضد المعارض عثمان سونكو ومناصريه؛ وفي المقابل دعا عثمان سونكو المتظاهرين إلى وقف العنف والشغب داخل البلاد، ما دفع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) إلى الدعوة إلى ضبط النفس والهدوء، إضافة إلى ضمان الحق في الاحتجاج.
بينما دعا أنصار عثمان سونكو إلى مواصلة الاحتجاج حتى الإفراج عن زعيمهم صاحب الشخصية القوية والكاريزما عثمان سونكو، ما زاد في تأزم الوضع الأمني والانسداد السياسي في البلاد. كانت سياسة الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال، تقوم على القضاء على المعارضة القوية ذات القاعدة الانتخابية فبل انتخابات عام 2024، إذ كان ينوي تعديل الدستور ليسمح له بأن يترشح لولاية ثالثة، كما حدث في غينيا برئاسة ألفا كوندي، وساحل العاج برئاسة الحسن وتارا، ودول عربية عديدة.
من الأَسر إلى القصر.. ديوماي فاي رفيق سونكو الذي سيصبح رئيس البلاد
تحولت قضية عثمان سونكو إلى مسألة سياسية تثير قلق دوائر القرار في دكار وباريس، وبات ملفه أحد أوجه التراجيديا السياسية في السنغال، وسلسلة درامية تجمع بين العدالة والسياسة. في ديسمبر/كانون الأول 2023، صدر حكم قضائي يتعلق بأهلية عثمان سونكو السياسية للمشاركة في الانتخابات. تبع ذلك صدور حكم آخَر منعه من المشاركة في الانتخابات، ورُفض ترشحه للرئاسة في 2024. خلال فترة احتجازه، تم في يناير/كانون الثاني 2024 تعيين باسيرو ديوماي فاي أميناً عاماً لحزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” ومرشحاً رسمياً نيابة عنه في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في 25 فبراير/شباط 2024. هذا القرار لقي ترحيباً واسعاً من الشباب في الحزب وأنصاره والمتعاطفين مع الحزب.
باسيرو ديوماي فاي، الرئيس المنتخب المولود في عام 1980، سبق أن قضى فترة في السجن بسبب انتقاداته لسياسات الحكومة، وقد التقى عثمان سونكو، زعيم حزب “الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة” في مديرية الضرائب والأملاك العقارية، حيث انضم فاي إلى النقابة التي كان يقودها سونكو، والتي تولى أمانتها العامة قبل تأسيس الحزب.
يرى المحللون المختصون بالشأن السنغالي أن فوز باسيرو ديوماي فاي يمثل، في الحقيقة، انتصاراً لعثمان سونكو، الذي كان له دور أساسي في تحقيق فوز الرئيس المنتخب باسيرو ديوماي فاي. الثنائي سونكو-فاي، الذي يُعتبر تذكرة رابحة في فترة زمنية قصيرة جداً، نجح في تجميع أصوات الناخبين وتحقيق فوز تاريخي على مرشح السلطة من جهة وعلى “الإستبلشمنت” من جهة أخرى. من خلال المقارنة، يظهر الثنائي سونكو-فاي كنموذج في العهد الجديد للسنغال، بطريقة تذكّر بالثنائي أردوغان-غول خلال الفترة الذهبية لحزب العدالة والتنمية في تركيا ما بين عامي 2002 و2014.
في ضوء هذه التطورات، تطرح تساؤلات حول ما إذا كانت “ثورة السنغال الجديد” مجرد عاصفة في ربيع أفريقي بالمنطقة، وإلى أي مدى تقبل فرنسا والقوى الدولية الغربية فوز الرئيس الشاب الجديد وحليفه عثمان سونكو.
هل سيستطيع فعلاً الشعب السنغالي والقوى الشبابية الجديدة، إضافة إلى النخب السياسية والثقافية التحرر من “عقدة” الرئيس الأديب ليوبولد سيدار سنغور، الذي جمع بين السياسة والأدب وتنازل “طواعية” عن السلطة بعد عقدين قضاهما في الحكم؛ ليتفرغ للأدب ويلتحق بالأكاديمية الفرنسية، التي أُسست في عهد الملك لويس الثالث عشر من قبل الكاردينال ريشيليو، وهي من أقدم الهيئات في فرنسا بمهمة تطوير اللغة الفرنسية؟ إذ كان سنغور أيضاً من المدافعين البارزين عن النهضة الأدبية الأفريقية واللغة الفرنسية في القارة.
يقف السنغال على عتبة عصر جديد، مدركاً أن الطريق نحو الاستقلالية والتجدد لا يخلو من العقبات، لكنه مفعم بإمكانيات تحقيق ذاتية أكثر رسوخاً ونضجاً. إذ يواجه الثنائي عثمان وباسيرو تحدياً كبيراً للتحرر نهائياً من فكر وعقدة الرئيس سنغور وتحقيق القطيعة مع فرنسا، الوطن الأم، والانتقال السلمي للسلطة. هذا التحدي معقد، على الرغم من الوعي الجمعي والنضال السياسي الناضج للناخب السنغالي، إذ تعتبر القضية مرتبطة بالفكر (اللغة) بقدر ارتباطها بالأرض والإنسان.