أعلن وزير الأمن القومي في دولة الاحتلال، والشّريك في جرائم حرب الإبادة، إيتمار بن غفير، أنّ الوقت قد حان لبناء كنيسٍ في المسجد الأقصى، وأنّه يجب تطبيق «المساواة» بين المسلمين واليهود في «جبل الهيكل».
وأعلن وزير التراث في الحكومة الفاشية، رصد مليونيّ شيكل لتمويل «اقتحامات إرشادية» داخل باحات المسجد لمواطني إسرائيل وللسّياح الأجانب، وذلك «لإظهار كذب الفلسطينيين وتفنيد روايتهم» وتثبيت الرواية الصهيونية. وتكذيب رواية الفلسطينيين يعني تكذيب الرواية العربية والإسلامية.
يرافق هذا التطوّر الطبيعي والمتوقّع، الذي جرى التمهيد له على مدار عقود، إعلانات مموّلة في مواقع التواصل الاجتماعي، في حملة واسعة تظهر القدس وتاريخها باعتبارها مدينة يهودية، وتلغي تاريخ اليبوسيين العرب، الذين بنوا القدس منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد، وسبقوا بأكثر من ثلاثة آلاف عام داوود وسليمان والوجود اليهودي في القدس، وتلغي تاريخ غير العرب من شعوب كثيرة حكمت القدس لفترات طويلة تمتد إلى خمسة آلاف عام.
الرواية الصهيونية تلغي تاريخ المسلمين وتعتبره احتلالا، علماً أنّ المسلمين فتحوا القدس عندما كان يحكمها البيزنطيون حوالي ثلاثة قرون وقبلهم الرومان بقرنين، وبعد فتح القدس وتسليمها على يد المطران صوفرانيوس للخليفة عمر بن الخطاب، وتسليمه العهدة العمرية المعروفة، سمح المسلمون لليهود بالسّكن والصلاة في القدس بعد حرمانهم من دخولها لمدة 500 عام.
يَعتَبر الصهاينة احتلال القدس عام 1967 عملية «تحرير»، تكملة لما بدأ منذ عام 1948 لبعض أحيائها، وما زال «التحرير» مستمراً، بهدف استكمال إحكام القبضة على كل بيت وعمارة وحي في القدس، بما في ذلك المسجد الأقصى وقبّة الصّخرة، وهذا سوف يتوّج ببناء الهيكل، مكان المسجد الأقصى، وهذا ما يعبّر عنه الآن وزير الأمن القومي الفاشي بن غفير.
ويزعم بعض أقطاب الحكومة الصهيونية مثل وزير الحرب غالانت، وكذلك زعيم المعارضة يائير لبيد أنّ الوزير المتطرّف بن غفير يشكّل خطراً على أمن دولة إسرائيل بتصرفاته غير المسؤولة!
وأعلن نتنياهو أنّه لن تكون هناك تغييرات في الوضع القائم لطمأنة بعض أصدقائه العرب. وطبعا نتنياهو ليس ضدّ الفكرة، بل قصد أن التوقيت الآن غير مناسب. وهناك أصدقاء إسرائيل الذين دعموها في حرب الإبادة الجارية حاليا منذ عشرة أشهر في قطا ع غزّة، يزعمون بأنّ بن غفير والمستوطنين المتطرفين يشكلون خطراً على أمن إسرائيل. وذهب عامي أيالون رئيس «الشاباك» الأسبق، إلى أن هذه السياسة تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل.
هل هي حقيقة أن هذه السّياسات والممارسات خطراً على أمن إسرائيل وحتى على وجودها؟ أم إن هذه العبارات باتت كليشيهات جاهزة وقديمة عفا عليها الزمن؟
ما جرى ويجري في قطاع غزة من تقتيل وهدم وجرائم حرب ومن هدم للمستشفيات والمساجد والمؤسسات التعليمية والإدارية وقتل وجرائم حرب يراها الجميع، وحشر مليوني إنسان في مساحة أقل من عُشر مساحة القطاع المزدحمة أصلا، كان كافياً لإثارة غضب أكثر الأمم بدائية وضعفاً. ما جرى ويجري في قطاع غزّة هو مسلسل يومي من جرائم الحرب.
كل هذه الدماء وما جرى ويجري في المعتقلات، لم يلق رداً سوى بعض البيانات «المغمغمة»، التي تحذّر من التصعيد في المنطقة، وموقف جامعة الدول العربية الهزيل، منذ بداية حرب الإبادة حتى الآن، شجّع بن غفير وغيره، وهم يرون أنّها الفرصة لتحقيق حلمهم، فالعرب في حضيض ضعفهم وفي انشغالهم بعضهم ببعض.
امض يا بن غفير، اهدم وابن ما شئت، وحيثما شئت، ستشهد المدن الفلسطينية مظاهرات احتجاجية صاخبة، يستشهد خلالها المئات، يضافون إلى الإبادة في قطاع غزة.. في الدول العربية سوف تسمح أكثر الأنظمة للمواطنين بالتظاهر بعد صلاة الجمعة الأولى، استنكاراً لعملك الاستفزازي، وذلك لتنفيس غضب الجماهير، يتبع ذلك تحذيرات من العواقب الوخيمة لما يقوم به الاحتلال، ومناشدة للعالم أن يوقف حكومة إسرائيل عند حدها.
يعني يطلب العَرب من الهنغار والبلغار والكنديين والبولوفيين والأوغنديين أن يوقفوا إسرائيل عند حدّها، لأنّها تشكل خطرا على السّلام والاستقرار في المنطقة.. فهدم قطاع غزة لم يمس استقرار المنطقة بعد، بل يطالب نتنياهو بتعديل بعض التفاصيل في اتفاقات كامب ديفيد، لإتاحة السّيطرة الكاملة على محور صلاح الدين، الذي يسميه الاحتلال محور فيلاديلفيا، استبعاداً لصلاح الدين من الذاكرة.
سيكون هناك إعراب عن قلق وشكوى ودعوى لاجتماع طارئ هنا وهناك، للجامعة العربية ودول التعاون الإسلامي، وسوف ينتج عنه البيانات التي تعرفونها، والتي يمكن صياغتها منذ الآن.
في المحصّلة، لن تكون خطراً على إسرائيل ولا يحزنون، وستكون يا بن غفير بطلاً في نظر أكثر أبناء شعبك، أنت ذو الأصول الكردية، ستكون الشخصية التاريخية عند شعبك كما هو صلاح الدين الكردي لدى المسلمين، يبدو لي أنّ كون صلاح الدين كردياً لا يغيب عن بالك كونك كرديا كذلك.
سيكون بإمكانك أن تنافس بسهولة على رئاسة الحكومة، وسوف يحظى حزبك بارتفاع كبير في شعبيته، نظراً لشجاعتك في تحدي مئات ملايين المسلمين.
منذ نصف قرن حذّر بعض اليساريين وذوو الفكر «الحمائمي» من أنّ الاحتلال والاستيطان خطرٌ على أمن إسرائيل، قد يوحّد العرب ويثير فيهم الغضب والنّخوة، وذهب البعض إلى أنّ المساس بالأقصى قد يستفز مئات ملايين المسلمين من كل جهات الكون، ويؤدي إلى نهاية إسرائيل.
يتبيّن عاماً بعد عام، وجيلا بعد جيل، أنّها أوهام متراكمة، تحوّلت إلى كليشيهات للاستخدام السِّياسي، كما كان لدى الشيوعيين قناعة اسمها «الحتمية التاريخية» بانتصار الطبقة العاملة واستلامها لزمام السّلطة في كل العالم، وذلك نتيجة للتطوّر الصناعي.
هذا الكلاشيه عن خطر التطرّف أوهم كثيرين من الفلسطينيين والإسرائيليين بأنّ العرب والمسلمين لن يتقبلوا المس بأولى القبلتين وثالث الحرمين، وأنّ الأنظمة مهما كانت متواطئة وتابعة وضعيفة، لن تستطيع مقاومة الغليان الشّعبي، وستضطر لاتخاذ خطوات عملية لمواجهة جريمة الاحتلال.
يغذّي هذا التوجّه الاتكالي، أصحاب بعض الأيديولوجيات العلمية، التي تقول إن لكلِّ فعل ردّ فعل، وأنّ كثرة الضغط تولّد الانفجار.. هذا صحيح في الفيزياء، وليس في العلوم الإنسانية.. هذا صحيح إذا تحدّثنا عن شعوب حرّة في أوطانها، قادرة على التّعبير عن غضبها لشرفها وكرامتها، وواعية بمكانتها التاريخية ومكانة مقدّساتها، ولكن هذه النظريات تتعثّر عندما تصل إلى الشّعوب المقموعة الممنوعة من التنفس في السّياسة، إلا بهدف واحد، مديح النظام، أو انتقاد صغار الموظفين، دون الاقتراب بحرف من هرَم السّلطة.
إقرأ أيضا : أزمات الشرق الأوسط تصوت في إنتخابات أميركا
الأنظمة تعرف جيّداً وبتدريب وتعاون وتبادل خبرات بين بعضها بعضاً، وبتنسيق وتوجيه من رأس الحيّة وذيلها في واشنطن وتل أبيب، كيف تمتصُّ غضب الشّعوب، وكيف تحوّل الكثير من هذا الغضب إلى الضحايا الفلسطينيين، وتحميلهم مسؤولية ضياع وطنهم، ومقدّساتهم، وبأنّهم هم الذين رفضوا الحلول السّلمية، وأنهم فاسدون ومتفرّقون وغير واقعيين.
سيتجاهلون أنّ من يحكم إسرائيل هي عصابات تحمل أيديولوجيا تؤمن بحتمية قيام إسرائيل من النّهر إلى البحر، باعتبارها دولة لليهود فقط، وأنّهم يعملون على تحقيق ذلك بكل الوسائل، بما فيها جرائم الإبادة، التي تشمل محو كل التاريخ العربي في فلسطين وطمسه، وأنّ العربي في معظم أراضيها ومناطقها ومدنها صار غريب اليد واللسان ومهاناً.
زيارة عادية بين قرية وأخرى في الضفة الغربية، وأحياناَ الجلوس على شرفة أو فتح شباك، أو الخروج إلى الأرض لزراعة غرسة، قد يكون ثمنه حياة إنسان.
أيّها المحتلون المتطرفّون والمعتدلون، ويا جميع أصحاب القرار في دولة الهيكل الثالث، اطمأنوا، إنّه الوقت الأنسب لتحققوا أحلامكم كما ترغبون، فما زال الوقت مبكراً جداً ليقظة العرب وغضبهم.. خذّوا راحتكم.