يُعد انتخاب رئيس جديد للبنان في التاسع من كانون الثاني/ يناير الجاري حدثا مهما، بعد أن ظل هذا المنصب عصيا على التسنّم لما يقارب السنتين وأربعة أشهر. كما يشكل منعطفا في الحياة السياسية اللبنانية، انتظره اللبنانيون طويلا، بسبب غياب منطق الدولة وتعطيل مؤسساتها، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، ثم تفاقم في السنوات اللاحقة بسبب «فيتو» حزب الله الذراع الإيرانية، الذي كان يُسقط كل استحقاق ليضمن هيمنته على مفاصل القرار اللبناني.
وإذا كان انتخاب الرئيس جوزيف عون يشكل عهدا جديدا للبنان، فإن انتخاب القاضي نواف سلام رئيسا للحكومة كان مفاجأة كبرى، بعد أن حاول البعض أن يُجدد الولاية لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، من أجل أن يكون كابحا لتوجهات الرئيس عون، حتى إن نواف سلام غادر بيروت إلى مقر عمله كرئيس لمحكمة العدل الدولية بعد أن أيقن بأن التجديد سيكون لميقاتي.
يقينا أن لبنان بهذه الانتقالة السياسية، بات على أعتاب حقبة جديدة، تخلف حقبة كانت قد تشكّلت صورتها من عدم احترام للقانون، وعدم تطبيق الدستور، وعدم احتكار الدولة للسلاح، وعدم إدارتها للعلاقات الخارجية مع محيطها الخارجي، إضافة إلى ذلك كانت كل المكونات قد اختبرت فائض قوتها على بعضها بعضا. فقد عاش لبنان مرحلة مارونية سياسية، ومرحلة حريرية سياسية، ومرحلة شيعية سياسية، وفي كل مرحلة كان هناك احتكار للدولة من قبل طرف واحد، يمارس الإقصاء على الآخرين ويفرض فيها على اللبنانيين أيديولوجيته، ويرهن البلد بأيدي حلفائه الخارجيين، لذلك كانت الخلاصة المستحصلة من كل ذلك لدى اللبنانيين، هي ضرورة أن تكون هنالك مرحلة هويتها لبنانية سياسية خالصة، خاصة أن عناوين المرحلة الجديدة التي دخل اليها لبنان، هي أفول نفوذ إيران عبر ذراعها حزب الله، الذي كان له القول الفصل في انتخاب أي رئيس، وكذلك التحول الجذري الذي حصل في سوريا بسقوط بشار الأسد، حيث كان لهذا الأخير أيضا كلمة عُليا في هذا الانتخاب وكذلك في المشهد السياسي اللبناني ككل.
في ضوء هذه الاعتبارات، جاء خطاب القسم الذي ألقاه رئيس الجمهورية الجديد متناغما مع المرحلة، فلأول مرة يسمع اللبنانيون شخصا يتكلم بمنطق الدولة، ويُعلن بكل صراحة على الملأ نيته استعادة الدولة، ولربما لم يسمع اللبنانيون هذه النبرة منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب رئيس الجمهورية اللبنانية للفترة من 1958 إلى 1964. فالعناوين التي جاءت في خطابه كان فيها الكثير من الجرأة وسقوفها عالية جدا وغير مسبوقة، فقد تحدث عن حق لبنان في وحدة السلاح، وهو أمر جديد إذا ما تمت مقارنته بمنطق سلاح المقاومة الذي كان سائدا منذ عام 2005. إيضا كان هنالك تركيز على دور الدولة في إدارة السياسة الخارجية وعلاقات لبنان الدولية، والتشديد على سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، والاهتمام بالمصالحة مع الدول العربية. وفي كل هذا إشارة واضحة إلى أن البلد لم يعد يحتمل، فإما أن تنجح هذه المبادرة وينتقل لبنان واللبنانيون إلى واقع صحيح وصحي، أو إذا فشلت فهذا يعني أن كيان البلد قد يكون في مهب الريح، فهذه فرصة تاريخية يجب أن تُستغل بشكل كامل وبكل جرأة.. وعليه فالمطلوب أن يكون هناك فريق عمل يشبه الرئيس في أفكاره التي طرحها في خطاب القسم، وأن يبتعد عن لعبة المحاصصة السياسية، كي يصبح كل شيء ممكنا. لكن السؤال المهم اليوم هو، هل فعلا هذا الخطاب سيصبح برنامج عمل لمرحلة سياسية جديدة في لبنان؟
إقرأ أيضا : حل “البعث” وعزل قياداته ضرورة تأسيسية لسوريا جديدة
لو كانت الأفكار الواردة في خطاب القسم قد طُُرحت قبل سنة من اليوم، لقُلنا إنها مجرد إعلان نوايا غير قابلة للتطبيق، لكن في اللحظة السياسية اللبنانية الحالية، وفي ظل المتغيرات الأقليمية بات الحديث عن هذه الأمور ممكنا. صحيح بالمعنى القانوني ومن الناحية الدستورية، صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حد ما ليست مُطلقة، كما هو موجود في النظام السياسي الأمريكي أو النظام السياسي الفرنسي، وإن السلطة الإجرائية هي بيد رئيس الوزراء، لكن من ناحية أخرى هناك دعم سياسي دولي كبير، لاسيما الدعم الأمريكي والفرنسي والعربي، ممثلا بمصر وقطر والسعودية، في مساعدة لبنان وهو مرتبط بشخص الرئيس الجديد، ما يساعده في لعب دور سياسي قد يتجاوز حدود الصلاحيات الممنوحة له، كما أن اختيار نواف سلام رئيسا للحكومة سيجعل من البيان الوزاري متناغما مع خطاب القسم، على العكس مما كان يُعوّل عليه البعض من السعي في تسمية نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة كتعبير عن الدولة العميقة الفاسدة.
ومع ذلك لا يمكن التغافل عن تنديد بعض النواب بعملية انتخاب الرئيس، حيث قالوا إنها تمت بحضور الموفد الرئاسي الفرنسي والموفد السعودي، وكانت عملية تعيين قد فُُرضت من الخارج، لكن فريقا لبنانيا آخر قال، إن مُطلقي هذه الأقاويل هم الذين أفرغوا الدستور من محتواه، وتعالّوا على الدستور واستغلوه على مدى سنوات وجودهم في السلطة، وأشرفوا على كل الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية، وحتى العدوان الإسرائيلي على لبنان.
أما على الطرف الشعبي فقد بدا أن نبض الشارع اللبناني، وكيفية تعاطيه مع هذا الانتخاب قد اكتنفه الكثير من الارتياح، وحتى من أنصار بعض الأطراف السياسية التي كانت حتى الأمس القريب ضد ترشيح العماد جوزيف عون كرئيس للبلاد. ففكرة إخراج البلاد من هذا الفراغ وتحريره من الجمود الذي ران على الحالة السياسية على مستوى الرئاسة، الى جانب طرح الكثير من نقاط الأمل للمرحلة المقبلة، كانت هامة وأساسية ومركزية لدى الشارع اللبناني.
ومن الجدير الإشارة إلى مفارقة هي أن الرئيس جوزيف عون هو أول رئيس من جنوب لبنان في تاريخ الجمهورية اللبنانية. وبما ان القضية اليوم في الجنوب، وأن الرئيس ابن الجنوب، فبهذا المعنى نحن أمام لحظة جامعة في السياسة اللبنانية، إذا ما قورنت بما كان سائدا من عهود سابقة. المفارقة الثانية هي أن الثنائي الشيعي أمل وحزب الله، اللذين كانا يتحكّمان بالمشهد السياسي، بات من الزمن الماضي. وأن الذراع الإيرانية حزب الله بات يفهم أن مرحلة احتكار السلاح قد انتهت. كما أن سقوط نظام بشار الأسد الذي كان يشكل مدا حيويا له، ورئة يتنفس من خلالها لتمرير السلاح والميليشيات، ولعب دورا في ما يسمى محور الممانعة قد ولّت، وعلى الحزب اليوم اختيار سياسة جديدة تتلاءم مع الواقع الجديد.