تستضيف سويسرا في منتصف شهر يونيو القادم مؤتمرا دوليا لإيجاد حل لتحقيق السلام في أوكرانيا، بناء على طلب تقدم به الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، دون توجيه الدعوة لروسيا الاتحادية بالحضور اليه، ما يطرح السؤال حول حقيقة هذا المؤتمر وما يمكن أن يتمخض عنه من نتائج لوضع الحرب في أوكرانيا.
أولا، من الناحية التنظيمية، كان على منظمي المؤتمر -هذا إذا افترضنا حسن نوايا المنظمين- أن يوجهوا الدعوة أيضا إلى روسيا باعتبارها الطرف الثاني في الصراع، لأن الأعراف الجاري بها العمل في مؤتمرات السلام يقتضي دعوة الطرفين المتحاربين والأطراف المتدخلة فيه للحضور و التحاور بصرف النظر عن الخاسر أو الرابح، لا أن يقتصر على دعوة طرف دون آخر، عملا بمبدأ الحياد والتجرد الواجب الالتزام به من لدن القائمين على المؤتمر، ثم إن دعوة 160 دولة للمشاركة فيه، تبقى عديمة الجدوى اللّهم إذا كانت هناك نوايا مبيتة ضد موسكو من وراء انعقاده، الذي يراد منه حشد دول العالم لإظهار الأخيرة أنها متحدة ضد روسيا، كما هي عادة الغرب دائما في مثل هذه الأزمات، خصوصا بعد فشله في عزلها ديبلوماسيا.
الأمر الأكثر غرابة، أن المؤتمر بنى تصوره للسلام اتساقا مع الرؤية الأوكرانية المتكونة من عشر نقاط، التي سبق أن طرحها الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، على الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت مبكر من سبتمبر 2022، أي بعد ستة أشهر من انطلاق العملية العسكرية الروسية، وتتضمن هذه “الصيغة” مطالبة روسيا بالانسحاب الكامل من أوكرانيا، ووقف الأعمال العدائية، والتعويضات، ومعاقبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وغيرها من النقاط التي تضمنتها الصيغة، التي تبدو مستحيلة وغير واقعية قياسا إلى المستجدات الراهنة في الساحة العسكرية.
هذه الصيغة كان يمكن قبولها لو أن أوكرانيا هي من تمسك بناصية الأمور في المعركة، لكن أن تطرحها في ذروة اندحارها، فهذا يعني أن النظام الأوكراني عاجز عن إدراك ما يدور حوله من تحولات، إضافة إلى ذلك أن شروط السلام التي وضعها زيلينسكي قبل سنتين، جاءت في ظروف وسياقات معينة، إذ كانت روسيا قد انسحبت طوعا من أوكرانيا، و بعض الأراضي هناك لأسباب تكتيكية، بالإضافة إلى الارتباك في أداء القوات المسلحة الروسية، الذي مَكَّنَ الجيش الأوكراني من استعادة تلك الأراضي مؤقتا، لذلك ساد اعتقاد خاطئ لدى نظام زيلنسكي أنه سيمضي قدما في إلحاق هزيمة نكراء بالجيش الروسي، ما دفعه في لحظة من الغرور المفرط إلى طرح هذه الصيغة، التي لم تعد تتلاءم مع المتغيرات الحالية التي أفرزته الأوضاع الميدانية التي تميل لصالح موسكو.
والأدهى من ذلك، أن الرئيس فلوديمير زيلنسكي يستجدي نظيريه الأمريكي جو بايدن والصيني شي جين بينغ للحضور إلى المؤتمر في سويسرا، وهو الذي سبق أن رفض خطة السلام الصينية التي تقدمت بها بكين في فبراير/شباط من العام 2023، بعد أن تلقى تعليمات من داعميه الغربيين تحت ذريعة عدم حيادية الصين، لهذا من غير المنتظر أن يحضر الزعيم الصيني إلى قمة يدرك نتائجها مسبقا، حتى لا يُفْهَمَ أن الصين تقف إلى جانب الغرب في حال صدور بيان ضد روسيا.
من هنا يتبين أن السلوك الغربي والأوكراني في التعاطي مع الأزمة يتسم بالغباء الشديد، والغطرسة الجوفاء التي تجعلهم يتصرفون وكأنهم المنتصرون في الحرب من خلال فرض رؤيتهما الأحادية لإقرار السلام، رغم أنهما ليسا في وضع يسمح لهما بذلك، بالنظر إلى الوقائع الميدانية التي باتت تفرضها موسكو عليهما، وحتى إذا افترضنا خروج المؤتمر ببيان يتبنى الطرح الأوكراني لمعالجة الأزمة مع روسيا، فإنه سيبقى عديم الأثر السياسي لأنه لا يحمل صفة الإلزام، وسيبقى الوضع على ما هو عليه.
كانت لأوكرانيا فرصة ذهبية بعد التوصل لاتفاق سلام مع روسيا بعد بداية العملية العسكرية الروسية من خلال المفاوضات التي احتضنتها مدينة إسطنبول التركية في آذار/مارس 2022، لأن ذلك كان سيمكنهم من الحفاظ على كل الأراضي التي ضمتها موسكو إلى ترابها، ولَحَقَنُوا دماء خيرة ضباطهم وجنودهم ـ لكن نظام زيلينسكي آثر السير في ركب الغرب والانبطاح له، بعد تلقيه أوامر منه بالتنصل منها وعدم الالتزام بها، وَهُوَ ما أكده ضمنيا الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في كلمة له قبل يومين خلال حضوره مناورات “افس 2024” في مدينة إزمير التركية، بل ووصل الأمر آنذاك بالرئيس فلوديمير زيلينسكي إلى إصدار مرسوم رئاسي في سابقة تشريعية هي الأولى في العالم، يُحَرِّمُ فيه بمقتضاه على نفسه الحوار مع موسكو، طالما بقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سدة الكرملين،
ما لا يريد الغرب وزيلنسكي فهمه، أن روسيا عَبَّرَتْ غير ما مرة على لسان المسؤولين الروس، وأولهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن أي اتفاق سلام مع كييف يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المعطيات الميدانية التي فرضتها موسكو على الأرض، بمعنى أن تعترف أوكرانيا بالأمر الواقع. لذلك من الوهم الاعتقاد بأن موسكو ستعيد الأراضي التي أصبحت جزءا من ترابها الوطني إلى كييف، لأن ذلك سيشكل انتصارا سياسيا للنظام الأوكراني، وستترتب عنه تداعيات خطيرة على الداخل الروسي، خصوصا في ظل الانتصارات المتتالية التي تحققها القوات المسلحة الروسية في العديد من القطعات العسكرية، والتراجع القهقري للجيش الأوكراني أمامها.
من هنا يمكن القول إن المؤتمر سيولد ميتا حتى قبل أن ينعقد، للأسباب التي أوردناها أعلاه، لأنه يخلو من أية مقترحات واقعية تحل الأزمة، وتبقى لِسَاحَةِ المعركة الكلمة الفصل في الصراع.