هل يتخلى أردوغان عن التحالف مع الحركة القومية؟
الحليف القومي بات عبئا على الحزب الحاكم في بعض الملفات والقضايا، وخصوصا في بعض الملفات الساخنة في الشأن الداخلي التي سنفصّل في بعضها. كما أن الحزب يدرك أن تراجعه في الانتخابات المحلية الأخيرة هو رسالة تحفظ من الناخبين على عدة أمور من ضمنها منظومة التحالف
من أهم ميزات السياسة الداخلية التركية ديناميتها العالية والإنصات لصوت الشعب الذي يفرض نفسه في صناديق الاقتراع، ولذلك لطالما كانت هناك تغيرات وحتى انقلابات في المشهد السياسي الداخلي ولا سيما ما يتعلق بالتحالفات، وغالبا ما أتى ذلك قبيل الانتخابات أو بعدها. ولذلك أيضا بقيت الجملة الشهيرة للرئيس الأسبق سليمان دميريل “24 ساعة وقت طويل في السياسة” التركية ذات مصداقية ورصيد حتى اللحظة.
خاضت الأحزاب التركية الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي وصفت بالحاسمة والمصيرية في أيار/ مايو 2023، ثم تنافست في الانتخابات المحلية التي تركت العدالة والتنمية لأول مرة ثانيا بعد منافسه التقليدي الشعب الجمهوري. وقد أدت تفاعلات ما بعد هاتين المنافستين لعدد من التطورات وفتحت الباب على بعض الأسئلة بخصوص المشهد السياسي والحزبي في البلاد، ومن ضمنها وفي مقدمتها مدى متانة تحالف الجمهور الحاكم بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية.
فقد حصلت في الأسابيع الأخيرة، فيما بعد الانتخابات المحلية، بعض التطورات التي وضعت التحالف على طاولة النقاش، فيما حرص مسؤولو الحزبين على تكرار الجمل المؤكدة على قوة التحالف واستمراره والرغبة في بقائه. فهل فعلا يفكر الرئيس التركي في فض التحالف مع الحركة القومية، أم إن ما يطرح من علامات استفهام لا يعود كونه زوبعة في فنجان متانة العلاقات بين الحزبين؟
بدأ التحالف بين الحزبين وتحديدا بين الرئيس أردوغان والزعيم القومي دولت بهتشلي بعد الانقلاب الفاشل صيف 2016، حيث كان الأخير قبلها معارضا شرسا للأول، وقدم مع الشعب الجمهوري مرشحا توافقيا (أكمل الدين إحسان أوغلو) لمنافسة أردوغان في الرئاسيات في 2014، بعد أن حاول إقناع الرئيس الأسبق عبد الله غل بالترشح، ورفض في 2015 فكرة المشاركة في حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية.
لكن مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل دفعت الحركة القومية لفكرة التحالف مع العدالة والتنمية تحت شعار “مصلحة تركيا”، ووجد الأخير فيه نصيرا وداعما لعدة مسارات رآها ضرورية و/أو مفيدة، وفي مقدمتها التحول نحو النظام الرئاسي في البلاد ومكافحة جماعة غولن التي نفذت المحاولة الانقلابية الدموية.
ورغم ترديد بهتشلي مرارا أن حزبه لا يبغي مصالح سياسية من التحالف مستشهدا بعدم مشاركته في الحكومة بوزراء منه، إلا أن نظرة عميقة تقول بأنه أكثر استفادة من التحالف من العدالة والتنمية نفسه، إذ وجد فرصة التغلغل العميق في عدد من مؤسسات الدولة وخصوصا الأمنية منها، فضلا عن اقتراب الحزب الحاكم من رؤيته هو في عدد من ملفات السياسة الداخلية والخارجية تحت شعار “الوطني والمحلي”.
ورغم فائدة التحالف القليلة للحزب الحاكم، بل لعلها أضرته كما فصّلت في مقالات سابقة (بينما أفادت أردوغان في الانتخابات الرئاسية)، إلا أن التحالف صمد طويلا على عكس تحالف المعارضة الذي تشتت بعد الفشل في انتخابات العام الفائت.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ لماذا قد يفكر الرئيس التركي لفض التحالف مع بهتشلي وحزبه؟ وهل ثمة ما يدفعه لذلك؟
من ناحية مبدئية فالتحالفات الانتخابية عادة مؤقتة وتنفض بعد مضيِّ الاستحقاق، بينما التحالفات السياسية أكثر قوة واستمرارا ولكنها رغم ذلك سياقية وقد تتبدل بتغير الظروف التي دفعت لها.
من ضمن الأسباب التي قد تدفع أردوغان والعدالة والتنمية لإعادة النظر في التحالف مع حزب الحركة القومية (من حيث المبدأ و/أو الصيغة و/أو التفاصيل) تراجع حضور الأخير وقوته وشعبيته، بعد انشقاق أكثر من حزب عنه وتراجع نتائجه في الانتخابات، ما يطرح علامات استفهام حول مستقبله في مرحلة ما بعد بهتشلي، وبالتالي فإن منطق النظام الرئاسي الذي يفرض على العدالة والتنمية أن يكون له حلفاء قد يدفعه للبحث عن حليف أقوى.
ومنها أن الحليف القومي بات عبئا على الحزب الحاكم في بعض الملفات والقضايا، وخصوصا في بعض الملفات الساخنة في الشأن الداخلي التي سنفصّل في بعضها. كما أن الحزب يدرك أن تراجعه في الانتخابات المحلية الأخيرة هو رسالة تحفظ من الناخبين على عدة أمور من ضمنها منظومة التحالف، فضلا عن وجود أحزاب إسلامية ومحافظة منافسة له، ما يضع إعادة تقييم التحالف (وليس بالضرورة التخلي عنه) ضمن متطلبات ومراجعات ما بعد الانتخابات.
وأخيرا فإن عزم الحزب الحاكم على صياغة دستور جديد (ومدني) للبلاد يفرض عليه محاولة التقرب من أحزاب يختلف عنها ومعها أيديولوجيا، وربما يفرض عليه بعض “التنازلات” من منظور التيار القومي في بعض مواد الدستور المنتظر.
بالعودة للتطورات التي دفعت لنقاش مسألة التحالف، هناك بعض الإشارات التي صدرت عن العدالة والتنمية في سياق الانتخابات الأخيرة والتي سبقتها؛ فهمها البعض في إطار “التودد” للشارع الكردي، وإن لم يُبنَ عليها أي تطور سياسي حتى اللحظة. وهناك الانفتاح على حزب الشعب الجمهوري بزيارتين “تاريخيتين”، الأولى لرئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال لمقر العدالة والتنمية الشهر الفائت، والثانية زيارة أردوغان لمقر الشعب الجمهوري قبل أيام، بعد 18 عاما من زيارة مماثلة له.
ومن ذلك أيضا حديث عدد من قيادات العدالة والتنمية عن رغبة الأخير في تعديل قانون الانتخاب، بحيث تتحول النسبة التي يحتاجها المرشح للفوز بالانتخابات الرئاسية من 50 في المئة إلى -40 في المئة، وقد فسّر الكثيرون ذلك على أنها محاولة للتخلص من الحاجة لدعم الحركة القومية (أو غيره) في الانتخابات الرئاسية، ما يمكن أن يفقده ثقله وأهميته ونفوذه على أردوغان وحزبه.
ولكن التطور الأبرز كان لقاء أردوغان مع السيدة عائشة أتيش، أرملة القيادي القومي السابق سينان أتيش الذي قتل في كانون الأول/ ديسمبر 2022، واتُهمت الحكومة كثيرا من قبل المعارضة بمحاولة التغطية على مسؤولية مفترضة لقيادة حزب الحركة القومية في اغتيال القيادي السابق في منظمة شبابية شبه مسلحة مرتبطة بالحزب (وقف الذئاب الرمادية للتعليم والثقافة).
جاء اللقاء قبل زهاء أسبوعين من بداية المحكمة المتعلقة بقضية الاغتيال في الأول من تموز/ يوليو، وفُهم كرسالة تؤكد على حرص الرئاسة/ الحكومة على فك ملابسات القضية ومحاسبة المتورطين، وكتب البعض أنها كانت إشارة على أزمة بين الحزبين المتحالفين العدالة والتنمية والحركة القومية. ولذلك تحديدا أكدت قيادة الحزبين، على لسان كل من أردوغان وبهتشلي، على متانة التحالف واستمرار، ولذلك أيضا قال بهتشلي في كلمته أمام كتلة حزبه البرلمانية إن “الرئيس أردوغان يقابل أي أحد وكل أحد” لأنه رئيس الدولة، منتقدا من ينظرون للأمر من زاوية اتهام حزبه وإدانته.
لكن، وبغض النظر عن مسار القضية وقرارات المحكمة، هل يمكن القول بناء على كل ما سبق إن أردوغان بصدد التخلي عن التحالف مع الحركة القومية؟
لا شك أن الإجابة الشافية الناجزة غير ممكنة في الوقت الحالي لغياب بعض المعطيات المهمة، لكن يمكن القول بأنه بات يستشعر ثقل وعبء التحالف عليه وعلى حزبه وحكومته، ولكنه يدرك أيضا أنه ما زال يحتاجه في ظل الخريطة السياسية والحزبية الحالية في البلاد. إذ ما زال العدالة والتنمية في حاجة للتحالفات ومن الصعوبة بمكان أن يجد حليفا آخر بسهولة ودون أثمان سياسية كبيرة، كما أن التخلي عنه في هذا التوقيت قد يضره أكثر مما ينفعه.
ولذلك، يمكن القول إن كل ما سبق وغير لا يتجاوز أن يكون مسارا لوضع مسافة ما بين الحزبين، رغم استمرار التحالف، وهو أمر لا يمكن توصيفه كانفضاض للتحالف، لكنه يمكن أن يكون مرحلة موطئة له في حال اتجه القرار السياسي لذلك مستقبلا.