بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، تجدد احتمال التوصل لاتفاق مشابه في غزة، إذ أعلن نتنياهو عن استعداده للموافقة على وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، إلا أن الحرب عليه ستستمر للقضاء على حركة حماس، وفي المقابل أعلنت حماس عن استعدادها للعودة للمفاوضات، وتخليها عن شرط وقف الحرب الذي طالما تمسكت به، فيما توجه وفد منها الى القاهرة في 30 نوفمبر، لمناقشة الأفكارالمتعلقة بوقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى في قطاع غزة مع المسؤولين المصريين.
إن استعداد نتنياهو للتفاوض غير المباشر مع حماس، يعود لاعتقاده بأنه بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، تغيرت الظروف لصالح إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حماس بالمفاوضات، أو بالقوة، بالإضافة إلى سعيه للحفاظ على علاقات وديه مع دونالد ترامب، الذي طالبه بالحصول على «انتصاره» قبل دخوله البيت الأبيض في 20 يناير المقبل.
اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان أتاح لإسرائيل نقل قطاعاتها العسكرية من جبهة لبنان الى جبهة غزة، إلا أن محللين عسكريين إسرائيليين أعربوا عن اعتقادهم، بأنه لم تعد هناك أهداف عسكرية في قطاع غزة تستدعي حشد قوات إسرائيلية إضافية. إلا أن إسرائيل بدفعها مزيدا من القوات للقطاع، إنما تخطط لخلق واقع جديد فيه، من خلال مواصلة حرب الإبادة ضد الفلسطينيين المدنيين، لاسيما في الشمال، بذريعة إنهاء وجود حماس المسلح وحكمها، ولإقامة منطقة عازلة.
وعمليا بدأت إسرائيل بإقامة بنية تحتية في القطاع من معسكرات وشق طرق، تؤشر إلى نيتها لاحتلاله لفترة طويلة، بالإضافة لمخططات الاستيطان فيه، التي تحظى بدعم حكومة اليمين الإسرائيلي، كما أنها ستعمل على تطبيق ما تسميه «خطة الفقاعات» في شمال غزة، التي تقدم بها أحد مراكز الدراسات المقربة من حزب الليكود الحاكم. وتقضي خطة الفقاعات هذه، بعزل من تعتبرهم من غير المؤيدين لحماس في مناطق للعيش فيها، كما أفادت بذلك «وول ستريت جورنال».
ونقلت الصحيفة عن إسرائيل زيف الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي، الذي سبق أن أشرف على الانسحاب الإسرائيلي من القطاع في 2005 قوله، «هذه الخطة قد تستمر لـ5 سنوات مقبلة، يمكن خلالها للسلطة الفلسطينية أن تستعيد سيطرتها الأمنية والإدارية على القطاع»، وبالإضافة لذلك فإن إسرائيل تعمل على تطبيق «خطة الأصابع» التي أطلقها آرييل شارون في 1971، التي قسمت غزة آنذاك إلى 4 مناطق معزولة، تتخللها عرضيا 5 أصابع كأصابع اليد، وتتكون من مستوطنات ومناطق عسكرية مغلقة، وحسب صحيفة «هآرتس» فإن الجيش الإسرائيلي بدأ فعلا بتنفيذ خطة الأصابع في مارس الماضي، بافتتاحه محور نتساريم بطول 7 كيلومترات وعرض 8 كيلومترات، الذي يفصل محافظة الشمال ومدينة غزة عن وسط وجنوب قطاع غزة، بما يعادل 15% من مساحة القطاع.
إن نقل القوات الإسرائيلية من جبهة جنوب لبنان، إلى جبهة غزة بعد التوصل لوقف إطلاق النار مع لبنان، لن يحدث فرقا كبيرا في سير المعارك في قطاع غزة، لأن هذه القوات كانت أصلا موجودة فيه قبل بدء العملية العسكرية البرية في جنوب لبنان في نهاية سبتمبر2024. وبإمكان حركة حماس والفصائل الأخرى مواصلة المقاومة بأسلوب حرب العصابات، رغم الخسائر لتي منيت بها باغتيال عدد من قادتها من الصف الأول، والصعوبات اللوجستية التي واجهتها خلال 14 شهرا من القتال مع قوات الاحتلال، لكن الفارق الذي سيحدثه نقل القطاعات العسكرية الإسرائيلية من الشمال الى الجنوب، يتمثل في مواصلة سياسة تقتيل المدنيين وتجويعهم، وإجبارهم على النزوح من مناطق سكنهم الى مناطق أخرى.
إن غزة بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله باتت أمام سيناريوهين إثنين: الأول إن وقف إطلاق النار في لبنان قد يعطي دفعه للجهود الدولية لوقف الحرب، وما يعزز هذا السيناريو تنامي الضغوط داخل إسرائيل (لاسيما من المؤسسة العسكرية) المطالبة بإنهاء الحرب وإعادة المحتجزين في غزة. أما السيناريو الثاني، فهو عدم وقف إسرائيل حربها على القطاع واستمرار نتنياهو بالمراوغة والتضليل، لأن إنهاء الحرب قد يؤدي لتفكيك إئتلافه الحكومي الحالي، بالإضافة إلى أنه يسعى إلى تحقيق «انتصاره المطلق» وبالتالي حصوله على شعبية واسعة في أوساط المجتمع الإسرائيلي قد توفر له الحصانة ضد ملاحقته قانونيا على تهم الفساد التي تطارده.
اقرأ أيضا| العدالة الدولية للشعب الفلسطيني
واستجابة لطلب ترامب من نتنياهو بوقف الحرب في غزة بأي طريقة، قبل دخوله البيت الأبيض في 20 يناير المقبل، فإن نتنياهو قد يوافق على إتمام صفقة محدودة تتضمن وقفا لإطلاق النار لعدة أيام أو أسابيع، مقابل الإفراج عن عدد محدد من الإسرائيليين المحتجزين في غزة، وما يعزز هذا الاحتمال، أنه بعد التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان، شهدت الساحة تحركات مكثفة من قبل مصر وقطر والولايات المتحدة لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحماس، للتوصل إلى اتفاق عاجل لوقف إطلاق النار في غزة، على غرار اتفاق لبنان.
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، كان قد وصف إسرائيل بأنها «دولة بلا سياسات خارجية، وإنما بسياسات داخلية فقط»، وهذا ما قد يفسر احتمال قبول نتنياهو بصفقة محدودة مع حماس لتعزيز مكانته في الساحة السياسية الداخلية، خاصة أن محاكمته بشأن تهم الفساد المنسوبة له ستجري في ديسمبر، الأمر الذي قد يدفعه لمحاولة التشويش على إجراءات المحاكمة، بسبب انخراطه في مفاوضات التوصل لهدنة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين من غزة، بالإضافة لذلك، فإنه قد يعمل على تهدئة الأوضاع في غزة (تكتيكيا)، لمواجهة تداعيات مذكرة التوقيف الصادرة من محكمة الجنايات الدولية بحقه وبحق وزير دفاعه السابق يوآف غالانت.
كما أن انخراطه بمفاوضات للهدنة في غزة بمثابة رسالة إلى ترامب، بأنه يتجاوب مع دعوته لإنهاء الحرب قبل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة، وفي جميع الأحوال فإن نتنياهو سيعمل كل ما بوسعه لإخلاء شمال قطاع غزة من أكبرعدد ممكن من المواطنين الفلسطينيين. ورغم إعلان حماس عن استعدادها للعودة للمفاوضات مع إسرائيل للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وإعلان نتنياهوعن استعداده لذلك دون وقف الحرب، إلا أن العوامل التي ساهمت في التوصل إلى اتفاق لبنان، لا تتوفر بالقدر نفسه بالنسبة لقطاع غزة، فلبنان دولة ذات سيادة ولها علاقات مع دول كثيرة حول العالم، كما أن حزب الله أوكل مهمة التفاوض إلى الحكومة اللبنانية، وفي المقابل فإن حركة حماس تقود المفاوضات بنفسها، بسبب الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية سياسيا وجغرافيا، وغياب دولة ذات سيادة قادرة على إدارة مثل هذه المفاوضات.
وأمام هذا الواقع فإن إسرائيل ستحاول أن تكون يدها هي العليا في أي مفاوضات محتملة مع حماس، وستعمل كل ما وسعها لبقاء قواتها في القطاع لخلق واقع جديد.