هل نعيش أجواء ما قبل الحرب العالمية؟
في أعقاب هجوم كروكوس الإرهابي الذي وقع في موسكو، والذي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنه، والذي خلّف أكثر من 140 قتيلاً في حفل موسيقي، يضطر العالم إلى إعادة النظر في العلاقات الدولية والاستراتيجيات الجيوسياسية.
إن هذا الحدث المأساوي، الذي يأتي في وقت تتصارع فيه أوروبا مع موقفها بشأن الحرب الأوكرانية وتواجه انقسامات داخلية من جهة، وفي وقت تستمر فيه إسرائيل بحرب إبادة جماعية مرّ عليها حوالي 6 أشهر من جهة أخرى، لم يسلط الضوء على التهديدات المستمرة للإرهاب فحسب، بل سلط الضوء أيضاً على التفاعل المعقد بين مخاوف الأمن القومي والعلاقات الدولية.
وكان رد فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفوري على الهجوم هو اعتقال 11 شخصاً، من بينهم أربعة رجال مسلحين، زعم أنهم كانوا يحاولون الفرار إلى أوكرانيا. إلى جانب ذلك، تعهد بوتين بتحديد ومعاقبة ليس فقط المهاجمين، بل وأيضاً أولئك الذين يقفون خلف الكواليس، بغض النظر عن انتماءاتهم. ومع ذلك، لا يمكن النظر إلى هذا الحادث بمعزل عن التوترات الجيوسياسية الأوسع التي تميز العلاقات الروسية مع الغرب، وعلى وجه التحديد، الولايات المتحدة وإسرائيل كذلك.
رغم تبني التنظيم والتحذيرات الغربية من تحركاته قبيل الهجوم، فإن الكرملين رفض التعليق على أن داعش وراء الهجوم، فقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في مقال لها في صحيفة “كومسمولسكايا برافدا” الروسية، أن واشنطن تختلق الأعذار لكييف، وتحاول أن تتستر على نفسها وعلى نظام الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بلصق التهمة بـ”داعش”.
بالتوازي مع هذه التوترات تجد أوروبا نفسها منقسمة بشدة، حيث يتهم زعماء مثل نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علناً بتصعيد الوضع من خلال اقتراح التدخل العسكري الغربي في أوكرانيا. ويعكس انتقاد سالفيني مشاعر أوروبية أوسع تخشى أن تؤدي مثل هذه التصرفات إلى تقريب القارة من دخول حرب عالمية جديدة. وتنبئنا هذه المشاعر بالكثير عن الوضع الحالي للسياسة الأوروبية، حيث تتسبب فكرة التصعيد العسكري في أوكرانيا في إحداث انقسامات سياسية كبيرة، حتى في الوقت الذي تسعى فيه القارة إلى التعامل مع مستقبلها الجماعي.
إن هجوم “كروكوس“، الذي وقع في هذه اللحظة الخطيرة والسائلة التي يمر بها العالم، لا يخدم فقط كتذكير قاتم بالتهديد المستمر للإرهاب، بل بشكل أكبر كحافز لتداعيات جيوسياسية أعمق. توقيت الهجوم، بعد وقت قصير من استخدام روسيا والصين حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الأمريكي الذي يسعى إلى معالجة الوضع في غزة دون إدانة الاحتلال الإسرائيلي أو المطالبة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل أو حتى الدعوة الصريحة لوقف دائم لإطلاق النار أو الدعوة لهدنة دائمة، يثير تساؤلات حول الدوافع والآثار الكامنة وراء هذا العمل العنيف.
هجوم كروكوس في موسكو سياق أوسع
إن هذا الفيتو، وما سبق ذلك من رفض روسيا تأييد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، يضع الكرملين في موقف معارض مباشر للنهج الذي تقوده الولايات المتحدة في التعامل مع الحرب الإسرائيلية على غزة. إن ربط بوتين الصريح بين الهجوم وموقف روسيا بشأن غزة، إلى جانب إشارة الكرملين إلى عدم الندم على استخدام حق النقض، يشير إلى شبكة معقدة من الدوافع والتداعيات التي تمتد إلى ما هو أبعد من المأساة المباشرة.
علاوة على ذلك، فإن تحذير السفارة الأمريكية لمواطنيها في روسيا بشأن الهجمات المتطرفة المحتملة يضيف طبقة أخرى من المكائد، ما يشير إلى احتمال المعرفة المسبقة بالتهديد. ويشير هذا، إلى جانب التحول العالمي اللاحق في صرف النظر عن جرائم إسرائيل في غزة إلى الهجوم في موسكو، إلى تلاعب استراتيجي أوسع بالأحداث والروايات الدولية. وتدور حجة موسكو حول الموقف الغامض من الولايات المتحدة حول أنه كان على الولايات المتحدة مشاركة جميع المعلومات الاستخباراتية حول الأعمال الإرهابية المحتملة، وامتناع الولايات المتحدة عن مشاركة المعلومات يضيف طبقات أخرى من الشكوك حول هذا الحادث الإرهابي.
عند تحليل هجوم موسكو وتداعياته، لا يستطيع المرء أن يتجاهل التفاعل بين مختلف الأجندات الدولية؛ إذ أثار الحادث تكهنات حول احتمال تورط فاعلين دوليين، حيث يشير الخطاب التهديدي الإسرائيلي ضد روسيا عبر بعض الأعضاء في حزب الليكود والتحذيرات من السفارات الغربية قبل الهجوم إلى محاولة محسوبة للتأثير على السياسة الخارجية لروسيا أو للانتقام من مواقفها بشأن القضايا العالمية وموقفها الخاص تجاه فلسطين، والذي تمثل بسعي دبلوماسي في مجلس الأمن لإقرار هدنة دائمة، وكذلك مساعيها لتوحيد صف الفلسطينيين من خلال دعوتهم إلى الحوار في موسكو لتشكيل جبهة موحدة وذات موقف ثابت وموحد ضد الاستراتيجيات الإسرائيلية والأمريكية، وتقويض محاولاتهما لتغييب القضية الفلسطينية وتصفية غزة بشكل كامل.
وبينما يتصارع العالم مع تداعيات هذا الحدث المأساوي، فإن المواضيع الأساسية للإرهاب الدولي، والاستراتيجية الجيوسياسية، والصراعات المستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط ترسم صورة لمشهد عالمي مليء بالتوترات والتحديات. والمتأمل في الواقع العالمي الحالي، يرى كأن التاريخ بصدد إعادة نفسه. فالشعبوية والتطرف يجتاحان العالم، وها هي أجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية تخيم على المشهد العالمي.
ختام القول، إن هجوم “كروكوس” الإرهابي، يأتي وسط دوامة من التوترات الجيوسياسية الدولية، ما يسلط الضوء بشكل صارخ على التوازن المعقد وغير المستقر بين الأمن القومي، والدبلوماسية الدولية، والمشهد السياسي العالمي الأوسع. إن الرد السريع والحازم من جانب السلطات الروسية، على خلفية الانقسامات العميقة داخل أوروبا، والديناميكيات المثيرة للجدل في المثلث الأمريكي الإسرائيلي الروسي، والفظائع المستمرة في الشرق الأوسط، تسلط الضوء على عالم يمر بمنعطف حرج.
إن هذا الحادث المأساوي هو بمثابة دعوة واضحة لاتباع نهج منسق ودقيق تجاه تعزيز السلام والأمن العالميين. وفي مشهد العلاقات الدولية المعقدة، يصبح من الضروري للدول أن تنخرط في حوار مفتوح وتفاهم متبادل وتعاون. وبينما راقب العالم هجوم موسكو وتداعياته البعيدة المدى، فإن الطريق إلى الأمام يتطلب إعادة تنشيط الجهود الدبلوماسية، والالتزام الثابت بالعدالة، والعزم الثابت على حماية الإنسانية من ويلات الحرب والإرهاب. وفي هذه اللحظة، يجب على المجتمع الدولي أن يجتمع لرسم مسار نحو مستقبل أكثر أمناً وسلاماً واتحاداً. لن تتحقق هذه الرؤية المتفائلة للحوار والتعاون الدولي إلا عبر تخلي القوى العالمية عن الإرهاب بوصفه أداة ضغط جيوسياسية، وكذلك البحث عن حلول مستدامة لمناطق الصراع، خصوصاً الضغط على إسرائيل لوقف أعمالها الإرهابية والعدوانية وحرب إبادتها الجماعية في غزة، لأن من يعتقد بأنّ ارتكاب إبادة جماعية بحق شعب كامل ستبقى نتائجه داخل إطار جغرافي محدود كغزة، فهو لا يفقه شيئاً في التاريخ والسياسة ودراسات الحروب.