في تصريح غريب أكد فيه رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي نعيم العبودي، في شهر تموز/يوليو الماضي، «خلو محافظة ذي قار من التلوث الإشعاعي»، وقال الوزير في مؤتمر صحافي بحضور محافظ ذي قار مرتضى عبود الإبراهيمي وأعضاء لجنة الأمر الديواني (23580) إن «الفرق الوطنية المختصة في هيئة الطاقة الذرية العراقية تمكنت بجهد استثنائي من معالجة المخلفات الحربية الملوثة، التي قاربت مئتي طن من القطع الحديدية الملوثة في غضون وقت قياسي بلغ أربعة وثلاثين يوما». وأشار إلى أن، «الفرق الرقابية في الهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية أجرت مسوحاتها اللازمة، التي أثبتت خلو محافظة ذي قار من المخلفات الإشعاعية». وأضاف أن، «خبراء هيئة الطاقة الذرية العراقية مستمرون في إجراءات تطهير عدد من المحافظات الأخرى، وأن الإعلان النهائي لخلو العراق من التلوث الإشعاعي بشكل كامل سيكون قريبا».
بصراحة، لم أفهم معنى إعلان الوزير حول اقتراب التخلص الكامل من مخلفات اليورانيوم المنضب، ولم أصدقه، لأن العراق يعاني من كارثة بيئية حقيقية، إذ أن عدد المواقع الملوثة ما زال كبيرا جدا، ونسب التلوث فيها عالية. ولم يصرح أي مسؤول عن ماهية الآليات وطرق معالجة التلوث التي استخدمتها الكوادر العراقية أو الأجنبية العاملة في هذا المضمار. لذلك أعتقد أن تصريح الوزير فيه مبالغة، وربما تقف وراءه دوافع اعلامية محضة.
وعلى ضوء ما أعلنه مركز الوقاية من الإشعاع، أن خطة تطهير التلوث تم تبنيها في آذار/مارس الماضي، حيث اجتمع مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع، مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحضور ممثلي الهيئات الرقابية والتنفيذية الوطنية المعنية بإدارة هذا الملف، وتم في هذا الاجتماع الاتفاق على تعزيز ودعم القدرات الوطنية في مجال تطوير قدرات إدارة ومعالجة النفايات المشعة والتخلص منها، وفق أحدث التقنيات العالمية، وتصفية المنشآت النووية العراقية، وذلك عبر برامج التعاون التقني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويشير خبير مكافحة التلوث الإشعاعي الدكتور كاظم المقدادي، إلى أن مسؤول برامج التعاون التقني لجمهورية العراق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية مسعود مالك، والخبراء في الوكالة الدولية، ربيكا آن وفيادان لوبينوف وتيموثي ميلنر، أكدوا تسخير الإمكانيات الدولية من أجل دعم العراق في هذا المجال. ولم يتضح ما هو الجديد في هذا الموضوع، الذي يجري تناوله طيلة 16 عاماً. كما أعلن المدير العام لمركز الوقاية من الإشعاع مطلع نيسان/أبريل 2024، أن «العراق يؤشر لخلو 59 موقعاً من التلوث الإشعاعي، وخلو الهواء من أي ملوثات إشعاعية – وفق البيانات المسجلة». وأضاف «لا توجد مساحات واسعة ملوثة بالإشعاع في العراق، وإنما بقيت 10 مواقع فقط تتراوح مساحتها بين (20 – 25) دونماً في عموم البلاد».
إن تاريخ التلوث الإشعاعي في العراق مرتبط بالحروب التي مرت على البلد، ففي حرب الخليج الأولى قصفت إسرائيل «مفاعل تموز» في منطقة التويثة جنوب بغداد في حزيران/يونيو 1981، ولم تؤشر معدلات تسرب إشعاعي حينذاك، لأن المفاعل كان قيد التسليم والاستلام بين فرنسا والعراق. أما في حرب الخليج الثانية 1991 فقد شهد العراق كوارث تلوث إشعاعي نتيجة استخدام قوات التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة ذخائر مصنعة من اليورانيوم المنضب لتدمير الآليات العراقية العسكرية، بالإضافة لقصف مشاريع البرنامج النووي العراقي في مختلف محافظات العراق.
وفي حرب الخليج الثالثة في أبريل 2003 تم استخدام قذائف اليورانيوم المنضب بشكل كبير، الأمر الذي تسبب بكارثة بيئية نتيجة التلوث الإشعاعي في العديد من مدن العراق، التي ما يزال يعاني منها العديد من المواقع التي لم تعد تصلح للسكن البشري، نتيجة خطورة الإشعاع فيها، إذ حدد مركز الوقاية من الإشعاع في العراق عام 2005 العديد من المواقع التي وصل عددها إلى 315 موقعاً ملوثاً باليورانيوم المنضب، وقد رفضت القوات الأمريكية والبريطانية الاعتراف باستخدامها قذائف اليورانيوم المنضب لسنوات في أول الأمر، وبعد أن اعترفت بذلك، رفضت تحديد الكميات المستخدمة والمواقع التي تم قصفها.
إقرأ أيضا : سيناريوهات ومناورات على خيط مشدود.. مصير الصراع والسياسة فى غزة ولبنان
وحسب المركز، أن الحرب الأخيرة خلفت ما لا يقل عن 10000 طن من خردة الحديد ومن عجلات الجيش العراقي المدمرة بقذائف اليورانيوم المنضب، إضافة إلى مئات الأطنان من أنقاض الحديد الملوث بكميات غير معروفة من اليورانيوم المنضب. ليس هذا فحسب، ففي عام 2006 أعلن فريق تابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في العراق، والمختص بالكشف عن التلوث الإشعاعي المعلومات الآتية ؛ أن «مسحا ميدانيا أجري لعموم محافظات العراق، وتم تحديد ما يقرب من 940 موقعا، 100 منها في محافظة البصرة وحدها، وأشارت النتائج إلى أن غالبية هذه المواقع كانت تنتشر فيها المخلفات الحربية، أو أنها كانت مقرات للجيش العراقي السابق ومراكز أمنية. وإن بعض تلك المناطق كانت داخل المدن، وأنها لم تكن ملوثة بالإشعاع أصلا، إلا أن نقل الخردة الحربية و(السكراب) إلى تلك المناطق، ومحاولة صهرها وبيعها، خاصة المقذوفات الحربية الفارغة المصنوعة من النحاس، أدى كل ذلك إلى انتشار التلوث الإشعاعي في تلك المناطق. وأن مدنا كالموصل وواسط والناصرية وبغداد والفلوجة وبابل والعمارة وديالى وغيرها، تضم مخلفات عسكرية ومواد مشعة من بقايا البرنامج النووي العراقي السابق، ونتيجة الحروب المتتالية».
مصدر في وزارة الصحة العراقية أعلن توضيحا حول مناطق انتشار الملوثات المشعة في العراق، حيث قال: «لدينا في وزارة الصحة في القسم المختص بأبحاث السرطان ما يزيد عن 54 موقعا مؤكدا لنشاط إشعاعي عال يفوق بـ100 مرة ما مسموح به عالميا، وتنتشر هذه المناطق في محافظات بغداد والمثنى وصلاح الدين ونينوى والبصرة وميسان وذي قار والأنبار». وأشار المصدر إلى أن معظم أسباب التلوّث الإشعاعي في تلك المناطق تعود إلى مخلفات حربية، كطائرات وهياكل دبابات وآليّات عسكريّة ومعدّات كهربائيّة وأسيجة معدنيّة ملوّثة، مضيفا أن المواد المشعّة شملت مواد كالسيزيوم، وأكاسيد اليورانيوم، والناتجة عن استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في العمليات العسكرية.
كما أشار مصدر آخر في وزارة الصحة العراقية، وتحديدا في دائرة مجلس السرطان، أن منطقة «التويثة» سجلت أعلى نسبة إصابة بالسرطان في مناطق بغداد، وفقا لإحصائية عملت عليها الوزارة في عام 2013. وإن غالبية الحالات السرطانية التي سجلت؛ كانت نتيجة وجودها بالقرب من المفاعل. وأشار المصدر إلى أن سبب ذلك يعود إلى تجاوز بعض المواطنين من الفقراء على أراضٍ فارغة قريبة بحدود 2 كلم من المفاعل، وأن هؤلاء أقاموا بيوتا على هذه الأراضي واستوطنوا فيها، مع جهلهم وعدم اكتراثهم بكل التحذيرات من مخاطر الإقامة قرب المفاعل المدمر.
ويشير الدكتور باسل الساعاتي أحد خبراء الطاقة الذرية العراقية إلى أن الملوثات الإشعاعية تعد من أكثر الملوثات التي يمتد تأثيرها عبر الزمن، ولا تنتهي خطورتها بإزالة المُلوِّث، إذ أن الوقت الذي تستمر فيه المواد المشعة في تأثيراتها طويل جدا وفقا لما يعرف بنصف عمر المواد المشعة. كما بين الساعاتي أن دراسة عراقية أجريت عام 1994 شملت مسحا ميدانيا للمناطق الملوثة إشعاعيا في العراق، أشارت إلى وجود أكثر من 50 موقعا في العراق، معدلات التلوث الإشعاعي فيها مرتفعة جدا، ما يستوجب ترك تلك المناطق وعدم شمولها بأي إعمار، أو بناء مجمعات سكنية مستقبلا، بسبب نسب التلوث الإشعاعي العالية فيها، والتي لا يمكن معها بقاء أي إنسان على قيد الحياة من دون إصابته بتشوهات جينية أو بالسرطان في حالة إقامته فيها، أو بالقرب منها. وإن من يحدد المسافة الآمنة عن المواقع الملوثة؛ هي نسب الإشعاع المنبعثة منها ونوعها، والتي تحددها وزارة البيئة، وفق مقاييس عالمية معتمدة دوليا.
ويجب أن نعلن أن المواد المشعة لا تنتهي تأثيراتها الصحية بمجرد رفعها ودفنها، وإن عملية دفن المواد المشعة، والمخلفات الملوثة إشعاعيا تحتاج إلى خبراء في هذا المجال. كما أن طمر تلك المواد، وعمق الطمر أو الدفن، والمواد التي تستخدم في الطمر وتغليف المواد المشعة ذاتها قبل طمرها؛ تعتمد كليا على نسب التلوث، وماهية نوع المادة المشعة المنبعثة منها، فضلا عن لزوم دفنها في مناطق تكون بعيدة عن التجمعات السكانية والمدن. وإن الدول غالبا ما تتخذ من الصحارى البعيدة مناطق لطمر المخلفات النووية، وبخلاف ذلك؛ فإن جميع السكان القريبين من تلك المناطق ستكون حياتهم معرضة للخطر، فضلا عن التأثيرات الجينية التي قد تصيب الأجيال القادمة.