لاحظ كثيرون خطين متناقضين تمامًا في المسألة الإعلامية المتعلقة بصورة “القيادة العامة” وسياستها وتوجهاتها المستقبلية، وصورة قائدها العام، أحمد الشرع، إذ استطاع العهد الجديد حجز مساحة إيجابية على مستوى الإعلام العربي والغربي، لكنه، ربما، لم ينتبه إلى أن الإعلام المحلي ما زال بلا ملامح، ما تسبب بسيل من الأخبار المضللة داخليًا.
الارتباك في الإعلام المحلي ستكون له آثاره الخطيرة، إذ يرتبط الإعلام الخارجي بسياسات وتوجهات الجهات التي يمثلها، ما يعني أن الاستقرار الإيجابي حيال ما قامت به السلطة الجديدة مرهون باستجابتها لمتطلبات غير محلية، وبعد حين سيجد ملايين السوريين أنهم يأكلون التراب، أو يسيرون وفق متطلبات خارجية، في حين أن همومهم الأساسية في غير مكان.
يُعرف الإعلام على أنه وسيط الدولة والجمهور معًا، إذ توصل مؤسسات الدولة رسالتها عبره، فيما يصل صوت الجمهور إلى تلك المؤسسات، وكأنه رجع صدى متبادل، هذا إذا تحدثنا عن مهمة الإعلام الحقيقية.
وحتى اللحظة، لا يتوفر الوسيط المحلي، ويقتصر التزويد على أدوات بسيطة أو حماسية، منها المؤثرون، لتمرير رسائل طمأنة، أو إعطاء انطباع عام عن استقرار وازدهار منتظَر، وهذا كله لا يتعدى الآمال ولا يقوم على تدقيق واقعي يدفع بصانعي القرار نحو الأمام.
تصف دراسة عن باحثين في جامعة “جلاسكو” البريطانية، “دور وسائل الإعلام في بناء المعتقد العام والتغيير الاجتماعي” بأنه “عملية تفاوض معقدة”، قد تنتهي إلى الالتزام السلوكي أو قد تمنع ذلك.
وتشير الدراسة إلى أن وسائل الإعلام هي في جوهرها مساحة متنازع عليها، يمكن فيها للمجموعات الأقوى تأسيس هيمنة رسائل محددة. ولكن تعقيد عملية الاستقبال يخلق بعد ذلك إمكانية حدوث اختلافات في المواقف والاستجابة السلوكية (Attitudinal and behavioural response).
على المستوى الداخلي، من المبكر جدًا الحكم على كسب المعركة، وإن كان الوضع إيجابيًا حتى اللحظة، لكن المؤكد أن الشرع يغرد منفردًا بإمكانيات شخصية و”كاريزما” فريدة، مدعومًا برغبة داخلية ودولية في ترسيخ أمن واستقرار سوريا في هذه المرحلة.
يصف بعض المراقبين ما يحصل بأنه حالة فريدة لم يعتدها تاريخ الثورات أو الانقلابات، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بنماذج قوى بخلفية إسلامية، فما يقدمه الشرع عبر الإعلام، وهو مقدمة ذكيّة، يختلف عما حصل في مصر “الإخوان المسلمين” وأفغانستان “طالبان” أو غيرهما من النماذج.
تلك الحالة الفريدة تطمئن إلى قبول مجتمعي، لكنها ليست مؤشرًا على استقرار مستدام، ويبقى التأكيد على أن بعض الإجراءات على الأرض مع كثير الترويج الإعلامي، غير المحلي، أو عبر وسائل التواصل، أسهم في قبول واسع للتجربة، وفي أي لحظة يمكن أن تتغير الصورة، عندما يتحول التقييم من الانفعال إلى تحديات الغد، وعامل الفصل في كل هذا ليس الإعلام بحدّ ذاته، وإنما اقتناع أي سلطة بأنه القناة الأهم لمعرفة ما يحصل وما ينبغي أن تقوم به من أجل بناء الدولة وترسيخ السلام.
هل انتهى الأمر، بالطبع لا، لقد بدأ للتو. فمشكلة الإعلام المحلي الموجه للداخل والخارج هي تحدٍّ كبير، إذ لا تملك “القيادة العامة” خبرات مهنية، لكنها تملك تكتيكًا ذكيًا في تهدئة المرحلة، وهذا يعني أن استحقاق بناء المؤسسات الإعلامية غير ممكن دون الاستعانة بالخبرات، والبدء بها من نقطة الصفر.
يتطلب بناء الإعلام طرفين اثنين، الأول الصحفيون ومديرو وسائل الإعلام المتمرسون، والثاني هو القوانين المتعلقة بتسهيل العمل وترسيخ حرية الصحافة وفهم أي نوع من الصحافة العصرية تحتاج إليه البلاد.
إقرأ أيضا : القطيعة مع التطرف وتحديات دولنة سوريا
كلما تأخر بناء صحافة البلد، صعبت المهمة، وفقدت السلطة القائمة واحدة من أهم أدوات فهم الواقع وسماع الناس وإسماعهم، وكذلك الاستقرار وترسيخ الوعي.
فيما يخص الكوادر السورية، هناك صحفيون متعجلون لأخذ الدور، بينهم من يحاول تقديم أوراق اعتماده للمشاركة في قيادة المرحلة أو حجز مكانه في المستقبل، وبينهم القلقون على موارد عيشهم ممن كانوا يعملون في المؤسسات بعهد النظام، وحقهم أن يؤمّنوا على مواردهم، بمن فيهم الانتهازيون.
كمان أن هناك صحفيين يتابعون مهمتهم، عبر وسائل إعلام المنفى، وهم في الغالب لم يتأثروا بتجميد عمل المؤسسات، لكنهم يحاولون التكيف مع متطلبات هائلة في الرسالة والأداء، فرضها التغيير.
هل ربح الشرع معركة الصحافة. نعم ربحها كأحمد الشرع، لكن بالنسبة للمهمة الأصعب، وهي دور الصحافة على المستوى المجتمعي، هناك طريق يمكن أن تفقده البلاد إن لم تبدأ الخطوة الأولى.. وللحديث بقية.