إيران
هل فطن خامنئي إلى أن الجوع كافر؟
لم يعد الإيرانيون، بخاصة من الجيل الجديد، يحصرون أسباب أزمتهم في العقوبات الاقتصادية؛ بل باتوا يتهمون النظام مباشرة بالفشل والفساد، وهو ما جعل نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تبلغ 41% على المستوى الرسمي، وهي أدنى نسبة مشاركة انتخابية منذ هيمنة رجال الدين على السلطة بعد ثورة 1979.
انقسم الإيرانيون المسلمون على شكل مائدة السينات السبع (هفت سين) خلال عيد نوروز هذا العام الجديد، فبعضهم وضع على مائدته القرآن الكريم، وبعضهم الآخر ترك كتاب زرادشت أو صورة له، وآخرون فضلوا ديوان حافظ الشيرازي؛ وهذا دليل إلى انقسامهم على السلطة الدينية، وليس خلافاً تاريخياً على شكل تلك المائدة!
لقد حلّ النوروز (عيد الربيع ورأس السنة الفارسية) على الإيرانيين وهناك شيء تغير، لم يكن التحول الفصلي من الخريف إلى الربيع وبداية العام الجديد (21 آذار/مارس)؛ بل تحول وضعهم الاقتصادي إلى الأسوأ، ومزاجهم الذي بات يأساً من إمكان أن يُحدث النظام الحالي أي تغيير في حياتهم نحو الأفضل، فقد جاءت الزيادة في أجورهم مع بداية السنة المالية الجديدة، بنسبة لا تغطي مستوى التضخم الذي تجاوز 45% رسمياً.
وكانت رحلات النوروز شاهداً على هذا التبدل إلى الأسوأ، فقد اعتاد الإيرانيون أن يخرجوا خلال عطلتهم الطويلة إلى رحلات داخلية وخارجية، تمتد من مدن مثل شيراز وأصفهان وتشابهار حتى دول مجاورة مثل الهند وتركيا وجورجيا ودول الخليج، وذلك عبر الحافلات والطائرات.
لكن هذا العام انخفضت رحلات تلك العطلة مقارنة بالسنوات السابقة، صحيح أن السلطات بررت ذلك بتزامن عيد رأس السنة مع حلول شهر الصيام، وأيضاً بالأحوال الجوية المتقلبة، لكن في ظل الوضع الذي يواجه فيه الإيرانيون نقصاً في سلة معيشتهم بسبب الغلاء، أصبح السفر حلماً بالنسبة إليهم، بخاصة مع ارتفاع أسعار تكلفة تلك الرحلات، ما دفع بعضهم للاكتفاء بالرحلات الداخلية، فيما اكتفى آخرون بالتخييم أو الإقامة في المنازل المشتركة بدلاً من الإقامة في الفنادق الفاخرة.
الكفر بالنظام!
لم يعد الإيرانيون، بخاصة من الجيل الجديد، يحصرون أسباب أزمتهم في العقوبات الاقتصادية؛ بل باتوا يتهمون النظام مباشرة بالفشل والفساد، وهو ما جعل نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، تبلغ 41% على المستوى الرسمي، وهي أدنى نسبة مشاركة انتخابية منذ هيمنة رجال الدين على السلطة بعد ثورة 1979.
لقد كفر الإيرانيون بنظامهم مثلما فعلوها من قبل مع نظام الشاه الذي ثاروا عليه، لكن هذه المرة لا يواجهون فرداً واحداً، بل نظاماً معقداً في تركيبته التي تشبه المتاهة، وهو ما يجعل عملية إطاحته مرهونة بتآكل قاعدته الشعبية أولاً.
ويبدو أن النظام قد فطن إلى الحالة المزاجية التي أصابت الإيرانيين، بخاصة أن لديهم فزعاً من تضخم “ثلاثي الأرقام” يقضي على ما تبقى من أملاكهم وأحلامهم، فرفع المرشد الأعلى علي خامنئي شعار “الطّفرة الإنتاجية بمشاركة شعبية” لهذا العام الجديد 1403. وليس من الواضح إن كان قصده من المشاركة الشعبية ممارسة مزيد من الصبر أم إزالة المعوقات أمام القطاع الخاص للمشاركة مشاركةً أكبر في الاقتصاد الإيراني.
لكنه يعرف أن شعار العام الماضي (كبح التضخم ونمو الإنتاج) لم يتم تحقيقه تحقيقاً كافياً بما يجعل الإيرانيين يشعرون بتحسن أوضاعهم الاقتصادية، ولهذا دافع عن ذلك بقوله: “طبعاً لم يكن بالقدر المنشود… لكن هذا الشعار لا يمكن تحقيقه في غضون عام واحد، بل يجب أن يستمر”.
ويبدو أن النظام يدرك خطورة تأثير فشله على الشارع الإيراني، فروّج الرئيس إبراهيم رئيسي للإحصائيات الرسمية التي أكدت تحقيق معدل نمو تجاوز 4%، ونسبة بطالة انخفضت إلى مستوى 8%. كما تعهد البنك المركزي خفض معدل التضخم إلى مستوى 20% خلال العام الجديد.
لكن على أرض الواقع، فإن الشعب لا يشعر بأي تأثير إيجابي لما تعلنه هذه الإحصائيات، ما يدل إلى وجود مشكلة في تركيبة النظام تبتلع أي ارتفاع في نمو الإنتاج أو أي انخفاض للسيولة النقدية ومستوى التضخم.
وهو ما جعله في النهاية لم يعد يصدق ما يطلقه المسؤولون من تصريحات، وبات يلخص حل أزماته في التخلص من نظامه الحاكم الذي بات بيئة خصبة للفساد؛ فعندما يرى مواطن إيراني صورة المرشد الأول (الخميني) مطبوعة على عملته الوطنية، يقول لنفسه إن الفقر أصابنا منذ مجيء هذا الرجل!
وإذا فتشنا في أسباب هذا التباين بين الإحصائيات والواقع، فهذا يرجع إلى أسباب عدة، منها: البيانات الكاذبة، وهروب رؤوس الأموال، ما يجعل معدل النمو بلا فائدة، وأيضاً تفشي الفساد، بخاصة مع تشكل بنية استغلالية وطبقة فاسدة تتكسب من ثبات وضع النظام، ومن ذلك التربح من سياسة تخطي العقوبات، وتجارة العالم المظلم من تهريب سلع وغسيل أموال وتجارة سوق سوداء.
الجوع كافر!
في الأدبيات الإسلامية عموماً والشيعية خصوصاً، هناك حالة نبذ شديد للفقر، منها “الفقر هو الموت الأكبر”، “لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته”، بل إن التاريخ السياسي للشيعة تشكل على قاعدة العدالة من أجل محاربة الفقر، لكن المواطن الإيراني الشيعي الذي لطالما حدثه رجال الدين عن فساد الشاه الراحل واستئثار طبقة الأمراء والنخبة بالثروة وحرمان الشعب من خيراته؛ لم يجد نظام ولاية الفقيه يسمح له بالثورة على غرار أبي ذر الغفاري الذي قال: “عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”!
بل بعدما كان رجال الدين إبان عهد الشاه يتحدثون عن أن سبب الفقر هو نهب ثروات الشعب من قبل السلطة، باتوا الآن يعللون ذلك بسبب العقوبات الغربية ومحاربة الكفار للأمة المؤمنة، أو لأسباب تتعلق بغضب الله من وجود عصاة لا يلتزمون بأحكام شريعته!
ويبدو أن خامنئي فطن إلى أن “الجوع كافر” وأن الشعب الإيراني بلغ مرحلة خطيرة من الكفر بنظامه، ولذلك قال في خطابه في مناسبة النوروز إن “إحدى نقاط ضعفنا هي الاقتصاد لأسباب مختلفة، وقد تمت السيطرة على التضخم لكنه بعيد مما نريد، وإذا وصل الاقتصاد إلى المستوى المطلوب، فإن ذلك له تأثير على الدين والدنيا في البلاد”!
وقد صدق في كلامه، فإن “الناس على دين ملوكهم”؛ فإذا كفروا بدين ملوكهم، فلأنهم جاعوا على أيديهم. ولذلك يدرك خامنئي أن الكفر بالثورة وبنظام ولاية الفقيه وقيمه، يتعلق كثيراً بالوضع الاقتصادي، وهو ما يجب إصلاحه في المرحلة القادمة.
ولذلك فقد وقعت أحداث غزة بينما النظام الإيراني لم يتورط في حرب لم يختر توقيتها، بل لم يقطع اتصالاته بالولايات المتحدة الأميركية، ولا يزال يراهن على المفاوضات النووية في تخفيف العقوبات، إذ كما حصل على تغاض غربي عن مبيعات النفط بما أعاد النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية، نجد هذا النظام أيضاً يراهن على تلك المفاوضات في دعم خطته لتحويل موانئه الجنوبية إلى مركز عالمي لتصدير الغاز!
إذاً، يمكن القول إن النظام الإيراني يعيش معركة من أجل إنقاذه، وهذا ما يفسر تحالفه مع روسيا والصين وفي الوقت ذاته لا يقطع اتصالاته مع الغرب، وكذلك رغم التوترات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وتهديدات الملاحة في البحر الأحمر، لكنه ما زال يحافظ على مصالحته مع السعودية. بل إن هذا النظام يسعى إلى معالجة ملف عودة الإيرانيين المهاجرين الذين يخشون من الملاحقة الأمنية، فيطرح لهم نظام استعلام إلكتروني على الشبكة الدولية ليطمئنوا إلى وضعهم القانوني حتى يزوروا وطنهم الأم، فإن ذلك له دور فاعل في إنعاش السياحة الأجنبية وتوفير العملة الصعبة.
الكفر بالدين!
كان المفكر وعالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي، يركز في خطابه على محاربة رجال الدين الذين أضروا بحقيقة الدين بأن جعلوا منه دكاناً لبضاعتهم وأفيوناً لتخدير الشعوب، وهو ما دفع المراجع الدينية إلى تحريم قراءة مؤلفاته، لكن شريعتي كان في جانب الدين وأهميته في حياة الإنسان، فقد قال: “إذا استغلت السلطات الحاكمة الدين لحفظ مصالحها فستحصل أسوأ فاجعة يُسحق فيها الإنسان في الأنظمة المعادية للإنسانية، ويصبح الدين شهيداً في سجلات التاريخ”!
وهذا ما حدث تماماً بعدما تربع الملالي على عرش السلطة في إيران، فقد ظهرت حالة هروب من الشكل الرسمي للدين، بخاصة الصورة التي تتبناها الدولة، وبدأ الشباب يفتشون عن صور أخرى، ومنها العرفان، أو يقومون بتغيير دينهم، ومنها إلى المسيحية بهدف الحصول على فرصة للهجرة.
ويشير مسح وطني، أجرته وزارة الثقافة الإيرانية، الخريف الماضي، إلى أن 73% ممن طبق عليهم المسح يميلون إلى الدولة غير الدينية، وذلك لمعالجة آثار ما جلبته دولة ولاية الفقيه على إيران!
ويبدو أن حجم الفساد المتورط فيه رجال الدين وأبناؤهم (الطبقة الدينية) قد شجع حالة الرفض هذه تجاه السلطة الدينية، فقد انتهى العام الفارسي 1402هش، على فضائح فساد ضخمة، منها قضية رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخطيب جمعة طهران كاظم صديقي، المتهم بسرقة أراضي الدولة هو وأبناؤه، والذي دافع عن نفسه بأن الحملة الإعلامية ضده هي حملة ضد الدين!
وأيضاً قضية استقالة النائب الأول لرئيس السلطة القضائية، محمد مصدق، على خلفية تورط نجليه وعدد من القضاة في قضايا فساد مالي. وقبلها قضية فساد وزير الزراعة السابق في عهد الحكومة الحالية، سید جواد ساداتی نجاد، المتهم في قضايا تهريب عملة وغسيل أموال وتزويرها.
لقد بات الفساد ممنهجاً في إيران ويتم تحت اسم محاربة العقوبات أو باسم مناصرة النظام المقدس، فمعظم المتورطين في عمليات الفساد هم من أبناء النظام أو من المقربين إليه، وشاهد ذلك، قضية “شاي دبش” التي بلغ حجم الفساد فيها 3.7 مليارات دولار، وتمت إقالة 60 مسؤولاً حكومياً على إثرها.
ولذلك قالت لي صديقة إيرانية عند تهنئتها بعيد النوروز: “إن تم تغيير النظام في إيران، فلن يبقى أي أثر للإسلام، فإن حكم الملالي لإيران جلب الموت للإسلام”!