لم تنته حرب الإبادة في قطاع غزة وحرب التصفية في الضفة الغربية، فما أن أُعلن عن وقف إطلاق النار في غزة حتى أعلنت حكومة نتنياهو الحرب في الضفة الغربية، وشرعت بتدمير البنية التحتية في مخيمات الشمال وتهجير مواطنيها واستهداف الشبان بالقتل والاعتقال. وترافق العدوان على شمال الضفة، مع تقطيع أوصال جميع المدن والقرى بالبوابات والحواجز العسكرية، وشل حياة3.5 مليون فلسطيني وإذلالهم باستخدام أبشع ألوان العقاب الجماعي. كان أحدث فصول الحرب، عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهجير مليون ونصف المليون مواطن من قطاع غزة الى مصر والأردن، في مسعى جنوني لتحقيق اخطر أهداف الحرب.
صفقة تبادل الأسرى التي تخضع للتفاوض في مرحلتها الثانية والثالثة لا تنطوي على تراجع أميركي إسرائيلي عن أهداف الحرب. يؤكد على ذلك استمرار الحرب على الوجود والحقوق الفلسطينية بأساليب عديدة، وإصرار حكومة نتنياهو على سيطرة أمنية محكمة على القطاع والضفة، والإصرار على تدمير وتصفية البنية العسكرية للمقاومة، و»إزالة التهديد العسكري» بالقوة أو بالاتفاق عبر التفاوض، وباستبعاد كل مسعى لحل سياسي للصراع يعترف بالحقوق الفلسطينية التي عرفها القانون والنظام الدوليان، وتحديداً رفض ومنع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كتجسيد للكيانية الفلسطينية، وإزالة هذا البند من الأجندة الدولية والإقليمية، واعتبار أن أي تداول حول إقامة دولة فلسطينية يعتبر مكافأة للإرهاب الفلسطيني. وهذا ما أكده الكنيست الإسرائيلي بموافقة معسكر نتنياهو وأكثرية من المعارضة كأحزاب غانتس ولابيد وغيرهم. وهدف استمرار الفصل بين الضفة والقطاع وتهميش السلطة الرسمية ومنعها من المشاركة في إدارة قطاع غزة وإعادة إعماره. وتتبنى حكومة نتنياهو اهدافاً أخرى أكثر خطراً كضم المستوطنات الإسرائيلية ومناطق سي، أي أكثر من 60% من أراضي الضفة، وهدف التهجير من قطاع غزة ومن الضفة الغربية. كل الأهداف الإسرائيلية مطروحة للتطبيق سواء عبر التطهير العرقي في القدس والأغوار ومسافر يطا، أو عبر استصدار التشريعات التي تساعد في نهب الأرض وزرعها بالبؤر الاستيطانية، وكان آخرها إجازة شراء المستوطنين للأراضي الفلسطينية واستخدامها والتصرف بها والتي ستعرض قريباً على الكنيست لإقرارها نهائياً، أو عبر مشروع التهجير الذي أعلن عنه الرئيس ترامب، والذي ربط إعادة إعمار قطاع غزة بتهجير سكانه في أغرب مقايضة عقارية. وهذا يعني أن إعادة الإعمار مستحيلة. كانت عودة عشرات آلاف الغزيين الى أنقاض بيوتهم في الشمال والسير مشياً على الاقدام لمدة 9 ساعات أبلغ رد شعبي رمزي حقيقي على مشروع ترامب للتهجير، والرد الفعلي يكون بمباشرة الإعمار في أسرع وقت ممكن، وعودة عمل المدارس والمستشفيات أولاً.
اقرأ أيضا.. أزمة دستورية في إسرائيل.. ماذا يحدث؟
في المحصلة إن تحقيق الأهداف الإسرائيلية الأميركية حتى في حدها الأدنى يعني المضي بترجمة الحل الفاشي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهذا يستدعي رؤية المشهد السياسي المحلي والإقليمي الدولي وليس جزءاً منه، لمعرفة ما الذي تحقق وما الذي أحبط، وسبل المواجهة الفلسطينية للحل الفاشي، ومعرفة مستوى وجدية الدعم العربي والدولي.
إن أي نظرة شاملة للمشهد السياسي الناجم عن الصراع بين محور المقاومة – الممانعة وإسرائيل، سيجد تراجعاً كبيراً لإيران قائدة المحور بعد هزيمة حزب الله العسكرية، وسقوط نظام بشار الأسد، وتدمير قدرات حماس العسكرية وتدمير مقومات الحياة للمجتمع الفلسطيني في قطاع غزة، وتراجع روسيا او انسحابها من المنطقة كقوة عظمى داعمة للمحور. النتيجة العملية للهزيمة الإيرانية هو انفكاك وحدة الساحات، حيث لم تلتزم إيران قائدة المحور ومعها النظام الأسدي القوتان الأكبر بوحدة الساحات منذ 7 أكتوبر، تبعهما خروج حزب الله باتفاق وقف إطلاق النار متنازلاً عن شرطه بوقف الحرب ضد غزة، وتبعهم الحشد الشعبي العراقي الذي توقف بعد سقوط النظام الأسدي، ومن المفارقات اللافتة ان كل الساحات أوقفت الاشتباك بما في ذلك ساحة الحوثيين، في الوقت الذي صعدت فيه دولة الاحتلال حربها في شمال الضفة الغربية واتخذت ابشع إجراءات فصل عنصري جماعية ضد كل المدن والقرى والمخيمات. كشف المسؤول الإيراني محمد جواد ظريف لعبة الساحات ووحدتها على هامش اجتماع دافوس، «بتحميل حركة حماس مسؤولية فشل المفاوضات النووية الإيرانية الأميركية بسبب شنها هجوم 7 أكتوبر بدون علم إيران، ومتهماً الحركة بأنها تعمل دائماً من أجل قضيتها الخاصة على حساب الآخرين». هذا الكلام يلخص وظيفة محور المقاومة بمفهوم النظام الإيراني، وهو استخدام المقاومة كورقة ضغط من اجل تحسين موقع وحصة ايران الإقليمية، والاستخدام يكون بقرار إيراني، وقد أثار هجوم 7 أكتوبر بمبادرة حماس حنق المسؤول الإيراني لأنها لم تخدم المصلحة الإيرانية بل أضرت بها. ما تقدم لا يدع مجالاً للشك بأن استراتيجية إيران باستخدام المقاومة في سبع جبهات عربية كانت ذات طابع استخدامي وأناني ولا يقيم وزناً لمصالح شعوب المنطقة في التحرر من الاحتلال ومن علاقات التبعية، ما يدفعها الآن الى الذهاب للتفاوض على مكانتها الإقليمية وهي مجردة من ساحاتها وأوراق ضغطها، لتكون أمام خيارات صعبة كالتنازل عن برنامجها النووي طوعاً او قسراً باستخدام القوة. والقبول بمكانة إقليمية من الدرجة الرابعة او الخامسة ضمن علاقات التبعية، وكانت تطمح وتسعى الى درجة ثانية او ثالثة.
ان التدخل الأميركي في سورية ولبنان والعراق واستمرار دعم الحرب ضد الشعب الفلسطيني عسكرياً وسياسياً وصولاً الى التهجير، الذي يعيد بناء الهيمنة والتبعية، لا ينفصل عن نتائج المعركة وانهيار الساحات الواحدة بعد الأخرى، حيث استفرد أعتى حلف عسكري واقتصادي وتكنولوجي أميركي إسرائيلي غربي بمحور ضعيف لا تقارن قوته المتواضعة بقوة الحلف الأول. وكان -كعب أخيَل- محور المقاومة هو تعامل قيادته الإيرانية مع مكوناته كأوراق للضغط، والأنكى من ذلك استخدام محور المقاومة منفرداً ومجتمعاً لشعوبه شبه المعدَمة كوقود، وفي أحسن الأحوال عدم الاكتراث بحياتها ومصائرها وعذاباتها، حدث ذلك في كل الساحات وبخاصة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي وُضع في أتون حرب طاحنة، مجرداً من أبسط الحقوق وقواعد الحروب البدائية والحديثة على حد سواء. الغريب أن الذين يقودون المعركة لا يلتفتون الى النتائج والى ما يحدث في الميدان، فعندما تدعو قيادة حماس الشباب والناس عموماً الى النفير والتصدي للمعتدين في معركة مواجهة معروفة النتائج، او عندما تتحدث عن مفاجآت في الضفة، ويقول ناطقوها ان المقاومة تدق المسمار الأخير في نعش الاحتلال، أو يطالبون بالعودة الى العمليات الاستشهادية، وبأنهم يحققون النصر ويعتبرون المهمة الأعظم هي الحفاظ على الحكم ولو كان ذلك على الأنقاض وعلى حساب شعبهم. معنى ذلك انهم لم يستخلصوا الدروس، وأنهم ينتقلون من نصر الى نصر بمعزل عن رؤية النتائج، ورؤية الناس، فقط ينظرون الى أنفسهم ولا يرون إلا صورهم.