في 13 كانون الثاني/يناير، تم تعيين الأكاديمي والدبلوماسي والقانوني السابق نواف سلام رئيسًا للحكومة اللبنانية خلفاً لرئيس الوزراء اللبناني السابق الملياردير نجيب ميقاتي الذي شغل المنصب لثلاث مرات متتالية. وقبل ذلك بأربعة أيام من هذا التعيين، انتخب البرلمان قائد الجيش اللبناني جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، ليملأ المنصب الذي كان شاغرا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2022.وفى السياق نفسه، أشاد الكثيرون في لبنان وخارجه بهذا الفريق الجديد باعتباره بارقة أمل لتغيير الوضع الراهن المتأزم وبداية لإنهاء الكابوس الوطني الطويل في لبنان. فعلى سبيل المثال، وصف المبعوث الأميركي عاموس هوخشتاين تعيين عون بأنه “خطوة جوهرية نحو تحقيق السلام والأمن والاستقرار”، في حين صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “أن هذا التعيين سيفتح آفاقًا جديدة للإصلاح واستعادة لبنان لسيادته وازدهاره”.
بينما يجسد كل من الرئيس عون وسلام بالفعل نموذجًا جديدًا مغايرًا للمسار التقليدي، إلا أن لبنان لا يزال يواجه تحديات كبيرة، وسيبقى التحدي الأكبر لكلا الزعيمين هو تحويل وعودهما إلى إصلاحات عملية ملموسة.
سجل عون في التعامل مع “حزب الله”
على أكثر تقدير، ما كان لعون أن يصل إلى الرئاسة لولا سلسلة الانتكاسات العسكرية التي تكبدها “حزب الله” على يد إسرائيل، الأمر الذي أضعف سيطرته الداخلية وقلل من قدرته على احتكار المنصب. ويشكّل ترشيح عون تطورًا إيجابيًا نظرًا لما يحظى به من دعم شعبي في الداخل، علاوة على توجهه المؤيد للولايات المتحدة الأمريكية، ما يجعله مميزًا تمامًا عن الولاءات السياسية المثيرة للجدل والمشبوهة. ورغم ذلك، لا يمكن لعون أن يُحدث تغييرًا جذريًا بمفرده، إذ أن أرئيس الجمهورية في لبنان ليس صاحب السلطة التنفيذية العليا، بل يلعب دورًا محدودًا (وإن كان مهمًا) في تشكيل الحكومة وتعيين كبار المسؤولين.
وسيكون التحدي الأكبر الذي سيواجه عون هو مدى الاستفادة التي سيحققها من هزيمة “حزب الله” في ساحة المعركة، وتأكيد السيطرة الحصرية على امتلاك السلاح العسكري واستخدامه. فخلال فترة ولايته كقائد للجيش اللبناني التي دامت سبع سنوات، كان أداؤه في هذه القضايا محل تساؤل. والمثال الوحيد البارز على تحرك عون ضد “حزب الله” كان في عام 2021، عندما قام الحزب بالتحريض على الدخول في مواجهة عنيفة مع المسيحيين في حي الطيونة في بيروت، بهدف تخويف المحققين الذين كانوا يحققون في انفجار المرفأ القاتل عام 2020. وفيما عدا ذلك، لم يصدر عون أي توجيهات مباشرة للجيش اللبناني باتخاذ إجراءات ضد “حزب الله“. وبدلاً من ذلك، استمر تعاون القوات المسلحة مع “حزب الله” خلال فترة قيادته، وهو ما أعاق مهمة “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (اليونيفيل) في سعيها لتنفيذ ولايتها وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي يهدف إلى إزالة الأصول العسكرية غير الشرعية من الجنوب.
إقرأ أيضا : هل يمكن لسوريا أن تكون بلداً منزوع السلاح؟
ومنذ تعيينه رئيساً، أظهر عون استعدادًا أكبر للمضي قدمًا في قضية نزع سلاح ” حزب الله”، حيث صرح في خطاب تنصيبه إنه سيضطلع بمهامه كقائد أعلى للقوات المسلحة “لضمان حق الدولة في احتكار السلاح. ويُعد هذا التصريح بمثابة رسالة قوية لـ “حزب الله” وتأكيدًا فعليًا على التزام عون بتنفيذ قراري مجلس الأمن رقمي 1701 و1559، (اللذين يؤكدان على نزع سلاح “حزب الله” في مختلف أنحاء لبنان). كما تعهد عون بشكل صريح بتأمين حدود لبنان، بما يتماشى مع اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة بين “حزب الله” وإسرائيل. علاوة على ذلك، التزم عون بشكل قاطع بإجراء إصلاحات شاملة، ووعد بالدفع باتجاه استقلالية القضاء، واعتماد “الكفاءة بدلاً من المحسوبية” في التعيينات الإدارية، ومكافحة الاحتكار في القطاع الخاص، وتعزيز الشفافية.
سلام كدبلوماسي وقاضٍ دولي
خلافًا لعون، الذي كان اسمه مطروحًا على الساحة الرئاسية منذ عامين على الأقل، جاء ترشيح نواف سلام لرئاسة الوزراء بمثابة تحول مفاجئ. فقد عارض العديد من البرلمانيين تمديد ولاية ميقاتي، معتبرين أنه مرشح الوضع القائم الذي لا يساهم في طرح أجندة جديدة تركز على الإصلاح الاقتصادي ونزع سلاح الميليشيات. وكان رجل الأعمال فؤاد مخزومي المقيم في بيروت، المرشح الأوفر حظاً بين هؤلاء المنتقدين، لكنه لم يتمكن من الحصول على عدد كافٍ من الأصوات السنية. (حسب التقاليد، يحتفظ لبنان بمنصب رئيس الوزراء للمرشحين السنة).
تخرج سلام من معهد العلوم السياسية وكلية الحقوق في جامعة هارفارد وعمل كأستاذ محاضر في جامعة السوربون والجامعة الأمريكية في بيروت، وقد شغل سابقاً منصب ممثل لبنان لدى الأمم المتحدة (2007-2017). وبصفته تلك، كان سلام مسؤولًا عن سياسات الحكومة اللبنانية المؤيدة لسوريا في تلك الفترة، حيث استخدم مرارًا وَتكرَارًا حق النقض أو امتنع عن التصويت على القرارات التي تدين نظام الأسد بسبب العنف المروع الذي ارتكبه ضد المدنيين. كما اشتهر بتأبينه للزعيم الكوبي فيدل كاسترو في عام 2016، واصفًا الدكتاتور الكوبي بأنه” أيقونة التمرد والمقاومة وآخر جيل من قادة العالم العظماء“. بالإضافة إلى ذلك، أفادت التقارير أن سلام صوّت أكثر من 200 مرة لصالح إجراءات الأمم المتحدة التي تدين إسرائيل.
بعد مغادرته الأمم المتحدة، تم اختيار سلام في عام 2018 للعمل كقاضٍ في محكمة العدل الدولية. وفي عام 2024، انتُخب رئيسًا للمحكمة، حيث ترأس الدعوى القضائية متعددة الجنسيات التي تزعم ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة.
على الرغم من خدمته المخلصة للحكومات اللبنانية السابقة التي سيطر عليها “حزب الله”، يُنظر إلى سلام على نطاق واسع على أنه منتقد معتدل للحزب وداعية إصلاحي نزيه. وقد دعم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عندما أُسندت إليها مهمة التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام2005. ومن الجدير بالذكر أن كتاباته المستفيضة المؤيدة للإصلاح تشمل كتاب” لبنان بين الماضي والمستقبل” الصادر عام 2023، والذي تناول فيه الآثار السلبية للطائفية في “المؤسسات العامة وفي المجتمع ككل”، مؤكدًا أنها “تجعل لبنان عرضة للتدخل الأجنبي بشكل كبير”. كما دعا إلى إصلاح النظام الانتخابي ومراجعة الدستور وتنفيذ البنود غير المطبقة من اتفاق الطائف لعام 1989. ومن اللافت أن الكتاب لم يتطرق إلى قضية الإصلاح الاقتصادي أو مسألة السلاح غير الشرعي، على الرغم من نشره وسط أزمة اقتصادية خانقة، وتصاعد الاستفزازات العسكرية “حزب الله” ضد إسرائيل، وترهيب المنتقدين في الداخل.
التحديات التي يواجهها الفريق الجديد
لقد أضعفت الأحداث المفصلية التي شهدتها الأشهر الأخيرة – بدءًا من القضاء على قيادة “حزب الله “على يد إسرائيل وصولًا إلى الانهيار السريع لنظام الأسد – معسكر القوى التقليدية في بيروت، ووفرت فرصة حقيقية لنزع سلاح الميليشيات وعكس مسار الانهيار الاقتصادي الذي أصاب البلاد، واجتثاث الفساد، وإعادة بناء دولة فعالة. وقد يمتلك فريق عون وسلام القدرة على تنفيذ هذه الرؤية الطموحة. ومع ذلك، سيكون من الخطأ تجاهل العقبات الكبيرة التي سيواجهها الفريق، بما في ذلك التهديد المستمر (وإن كان متراجعًا) من قبل “حزب الله”، إلى جانب المصالح الراسخة التي تسيطر على جزء كبير من النظامين السياسي والاقتصادي في لبنان.
على سبيل المثال، كان عون بحاجة إلى أغلبية الثلثين في البرلمان للفوز بالرئاسة، وهي عتبة لم يكن بإمكانه بلوغها من دون أصوات “حزب الله” و”حركة أمل”، أي ما يسمى بـ “الثنائي الشيعي”. ويثير هذا الدعم تساؤلات ملحّة: هل سيتمكن عون من دفع أجندة نزع سلاح الميليشيات وإجراء إصلاح اقتصادي شامل، رغم أن هذه السياسات تتعارض بشكل مباشر مع مصالح هذا الثنائي؟ وما هي التنازلات أو الوعود، إن وجدت، التي قدمها لكسب هذا الأصوات؟
من المتوقع أن يواجه سلام تحديات متعددة، إذ لم يكن بحاجة سوى إلى أغلبية بسيطة للفوز بمنصبه، مما يجعله أقل التزامًا تجاه “حزب الله” داخل البرلمان. لكن هذا يفترض أنه قادر على الخروج من عملية تشكيل الحكومة المرهقة بحكومة مستقلة بما فيه الكفاية.. علاوة على ذلك، لم يتقلد سلام أي منصب تنفيذي بهذا الحجم من قبل، وستواجه أجندته الإصلاحية معارضة شديدة، وربما عنيفة في بعض الأوساط، خاصة إذا أصر على المضي قدمًا في مسألة نزع سلاح الميليشيات. وقد يواجه أيضًا صعوبات مع الكونغرس الأمريكي وإدارة ترامب المقبلة بسبب سجله الطويل من المواقف المناهضة لإسرائيل..
توصيات سياسية
على الرغم من المسار الصعب الذي ينتظر عون وسلام في الأشهر القادمة، فإن الوضع مقارنة بما كانت عليه البلاد قبل عام يوفر مبررًا للتفاؤل. فمع تراجع نفوذ “حزب الله” ووجود فريق جديد يتمتع برؤية إصلاحية، أصبحت بيروت في وضع أفضل للاستفادة من تزايد دعم المجتمع الدولي وتأمين المساعدات اللازمة لإعادة بناء مؤسسات الدولة المدمرة وتأهيلها.
علاوة على ذلك، بوسع واشنطن القيام بإجراءات ملموسة لتحفيز القيادة الجديدة على المضي قدمًا في مسار الإصلاح. فبمجرد وصول إدارة ترامب إلى السلطة، ينبغي عليها توفير مساعدات إضافية متواضعة إلى القوات المسلحة اللبنانية لمساعدتها على تنفيذ القرار 1701 في جنوب لبنان، على أن تقدم هذه المساعدات على دفعات مشروطة بالأداء. في مرحلة لاحقة، يتعين على الولايات المتحدة زيادة مساعداتها تدريجيًا إذا باشرت بيروت تطبيق القرار رقم 1559على أرض الواقع. في الوقت نفسه، ينبغي على واشنطن (وفرنسا) مواصلة التمسك بالمسار المحدد لخطة الإنقاذ الاقتصادي المحتملة، مع الاستمرار في ربط المساعدات المالية التي يوفرها صندوق النقد الدولي بمدى تقدّم بيروت في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية. ولضمان تمكين عون وسلام من تجاوز العقبات السياسية، ينبغي على إدارة ترامب أن تكون على استعداد لفرض عقوبات عاجلة على الجهات اللبنانية التي تعرقل عملية الإصلاح.
وبطبيعة الحال، ينبغي الحذر من أي حماسة مفرطة تجاه هذه الفرصة. ومع ذلك، تستدعي اللحظة الراهنة من واشنطن أن تتسم بالجرأة وتواصل عملية “الدعم والتحقق” التدريجية لدعم عون وسلام في سعيهما لتحقيق أجندة التغيير الطموحة.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط