التوترات المتصاعدة بين موسكو وعواصم دول حلف الناتو، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا بتاريخ 24جانفي/يناير 2022م، يبدو أنها ستؤدي للمواجهة المباشرة في نهاية المطاف، لأن موسكو التي لن تسمح بتوسع حلف الناتو ليشمل دولاً أخرى في أوروبا الشرقية، التي تعتبرها امتداداً لأمنها القومي، بعد أن أدرك صناع القرار في الكرملين بأن أوكرانيا كانت عبارة عن فخ استراتيجي أرادت واشنطن من خلاله، انهاك الجيش الروسي واستنزاف قواته لكي يسهل عليها تنفيذ مخططها في منطقة البلقان وأوروبا الشرقية، فأمريكا التي تستعد مستقبلاً لإزالة أكبر تهديد لاستراتجيتها العالمية في استدامة هيمنتها على المجتمع الدولي، والتحكم في موارده وخيراته، وفرض أجنداتها لتوسعة حلف الناتو شرقاً حتى ولو كان ذلك سيتسبب في اشعال فتيل الحرب العالمية الثالثة .
فأمريكا التي تريد التخلص من ازدياد نفوذ الصين، خاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وسيطرتها على طرق التجارة البرية والبحرية، في أسيا والمحيط الهادي عليها اضعاف أهم حلفاء الصين في المنطقة، وبالتالي فإن الدعم اللامحدود الذي حظي به الرئيس الأوكراني زلنسكي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يصب في إطار هذه الاستراتيجية، اذ أن حصار روسيا والتضييق عليها تعتبر من أهم ألويات الإدارة الأمريكية الحالية التي تستعد منذ سنوات للتصدي للهجوم النووي المتوقع من طرف الخبراء في البنتاغون، لذلك قامت واشنطن باتخاذ مجموعة من الخطوات الاستباقية، كإعادة نشر صواريخ باليستية ذات رؤوس نووية بعيدة المدى، وأقوى 3 مرات من قنبلة هيروشيما، في قاعدة تابعة لسلاح الجو الملكي في منطقة لاكنهيث شرقي بريطانيا، وذلك بعد سحبها عام 2008م، بسبب تضاؤل تهديد الحرب الباردة. كما ذكر موقع TRTعربي، بتاريخ 28جانفي/يناير 2024م، في مقال بعنوان (لمواجهة التهديد الروسي، واشنطن تخطط لإعادة نشر اسلحة نووية في بريطانيا).
الولايات المتحدة الأمريكية قد أكدت على لسان وزير خارجيتها انطوني بلينكن في الكثير من المرات بأنها لن تسمح لموسكو بأن تكون عائقاً في سبيل انضمام دول أخرى لحلف الناتو، وخاصة تلك التي كانت في السّابق جزءً من حلف وارسو، الذي تعتبره واشنطن أكبر تهديد عسكري للمنظومة الغربية في القرن الماضي، وبالتالي فهي تحاول بشتى الطرق ضم دول ذلك الحلف العسكري الذي كان تابعاً سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، للاتحاد السوفياتي بصورة غير مباشرة فكل القرارات الكبرى للحلف كانت تتخذ في موسكو، وأما وارسو أو فرصوفيا فكانت مقر تواجد الحلف، وعاصمة شكلية لا أكثر، فدول أوروبا الشرقية بما فيها مالدوفيا حسب العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة الخاصة بأوروبا بعد نهاية الحرب الباردة، يجب أن تكون موحدة يحكمها نظام اقتصادي رأسمالي تسود فيها أنظمة ديمقراطية مرتبطة بالاتحاد الأوروبي ومنضوية عسكرياً تحت لواء حلف الناتو، في إطار “حضارة سوبر باور “، التي تحكمها أمريكا وإسرائيل حسب رؤية هنري كسنجر الذي أكد قبل وفاته بأن الحرب العالمية الثالثة ستنطلق من إيران وسيتم تدمير روسيا قبل أن تفيق من الصدمة، ثم الصين بعد ذلك، وفق خطة استراتيجية مدروسة موضوعة مسبقاً تقضي بأن تسيطر إسرائيل على معظم دول الشرق الأوسط بدعم أمريكي كامل، وفرض الزعامة الغربية بالقوة على دول المجتمع الدولي.
الصراع الواقع حالياً بين واشنطن وموسكو في مالدوفيا التي كانت تعرف باسم يسارابيا عندما كانت إحدى الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي الذي استقلت عنه بعد انهياره سنة 1991م، وأصبحت دولة عضو في الامم المتحدة سنة 1992م، وقبل استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عاشت فترة من الحروب الأهلية التي لم تدم طويلاً بسبب إقليم ترانسنستريا الذي استقل بالفعل عام 1990م، وأسس جمهورية أطلق عليها جمهورية براتستوفيا المولدوفية دون أن تحصل هذه الدولة على اعتراف أممي، وطلبت الحماية من روسيا التي أرسلت 1500 جندي تمركزوا في أكبر مصنع لتوليد الطاقة الكهربائية في مولدوفيا التي تعد واحدة من أفقر اقتصاد في أوروبا، إذ تعتمد بنسبة تفوق 80 بالمئة على هذا الإقليم الانفصالي في توفير احتياجاتها من الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى أن هذا الإقليم يحتوي على 3 مصانع كبرى، ذات أهمية استراتيجية لمولدوفا كمصنع إنتاج الحديد والزجاج، زيادة على مصنع إنتاج الخمور، حيث يعد شعب هذه الدولة من أكثر الشعوب استهلاكاً للخمور في أوروبا، بمعدل يفوق 3 أضعاف المعدل الطبيعي، وهذا ما يفسر ربما ارتفاع معدلات الوفيات بين السّكان، وبأمراض لها علاقة مباشرة بالمضاعفات الجانبية للإفراط في تناول المشروبات الكحولية.
روسيا الحالمة باستعادة كل الأراضي التي كانت مكونة للإمبراطورية السوفياتية قبل انهيارها، قامت بدعم حكومة هذا الإقليم سياسياً وعسكرياً وحتى اقتصادياً، إذ أن محطة توليد الكهرباء في ترانسنستريا تعمل بالغاز الروسي المجاني، وتبيع الكهرباء لمولدوفيا بأسعار باهظة، فموسكو تحاول اللعب على وتر العرقية السلافية الروسية المشكلة للأغلبية الديمغرافية في هذا الإقليم من أجل اعطاء الشرعية للحكومة الانفصالية أمام المجتمع الدولي، فقد أبدت الخارجية الروسية دعمها اللامحدود للبرلمان في ترانسنستريا، إذ قالت الخارجية الروسية في بيان لها بعد طلب الجمهورية من روسيا المساعدة واتخاذ تدابير بسبب الحصار الاقتصادي الذي تفرضه مولدوفيا ” حماية مصالح سكان بريد نيستروفيه، مواطنينا، هي إحدى الأولويات، وتنظر الإدارات الروسية المعنية دائما في جميع الطلبات الواردة بعناية”، وقد ذكرت وكالة الأنباء “نوفوستي” الروسية أن مؤتمر نواب البرلمان في ترانسنستريا توجه بنداء إلى مجلس الاتحاد ومجلس الدوما في روسيا لتنفيذ تدابير لحمايتها في مواجهة الضغط المتزايد من قبل مالدوفيا، منوها بوجود أكثر من 200 ألف مواطن روسي في جمهورية ترانسنستريا، كما أشاد بالتجربة الفريدة لعملية حفظ السّلام الروسية على نهر دينيستر، ودور روسيا الضامن والوسيط في عملية التفاوض مع كيشيناو. كما ذكر موقع اليوم السابع، بتاريخ 28فيفري/فبراير 2024م، في مقال بعنوان ( روسيا: حماية مصالح سكان جمهورية ترانسنستريا الملدوفية أحد أولوياتنا).
فالعلاقات التاريخية بين روسيا وسكان هذا الاقليم الانفصالي وفق النظرة الغربية، دفعت بالكرملين لفتح جبهة أخرى، مع حلف الناتو في شرق قارة أسيا بعد أوكرانيا، وسط الانقسام الحاصل حالياً بين الدول الأوروبية خاصة بين قطبي الاقتصاد الأوروبي فرنسا وألمانيا، حول الاشتراك المباشر في الحرب الروسية الأوكرانية عن طريق إرسال قوات أوروبية مشتركة، وهذا يعني اعلان الحرب على موسكو التي هدد رئيسها فلاديمير بوتين بأن رقعة هذه الحرب ستتوسع لتشمل دول حلف الناتو، إن قررت اتخاذ خطوات عدائية تصعيدية كهذه، أوكرانيا و مالدوفيا مرشحتان للانضمام للاتحاد الأوروبي، ومن ثمّ حلف الناتو. فالاستراتيجية الروسية التي تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مهدد للسّلام والاستقرار في المجتمع الدولي، تحاول بشتى الطرق التخلص من الهيمنة الأمريكية، ووضع حد للممارسات العدائية من طرف هذه الدولة الامبريالية، التي تعتبر نفسها مركز النظام الدولي الجديد، والأجدر بصياغة النظم والقوانين الدولية بما يتوافق مع رؤيتها الشاملة للسّياسة العالمية، خاصة في منطقة القوقاز وشرق أوروبا، وهذا ما يتعارض مع مصالح الدولة الروسية، التي يبدو أنها تستعد لن تصمت طويلاً على ما تتعرض له من مؤامرات أوروبية وأمريكية لتحطيمها.