من يعتقد أن حرب غزة هي فقط حرب مقاومة الغزاويين ضد الاحتلال، أو هي فقط كفاح المقاومة الفلسطينية ضد حرب الإبادة التي تشنها عليهم إسرائيل فهو مخطئ. الطرف الآخر يعرف ذلك تماما منذ اليوم الأول.. إن حرب غزة في جوهرها تستهدف إعادة تشكيل النظام الإقليمي بأكمله في الشرق الأوسط. إسرائيل تريده لها بالقوة، لكن الفلسطينيين قالوا لا.
قالوها قوية بدمائهم. وفي التاريخ القريب لم تكن حرب السويس هي حرب المدن على ضفاف القناة، ولا حرب المصريين فقط ضد المعتدين الأجانب، إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وإنما كانت حربا حول إعادة تشكيل النظام الإقليمي. ولذلك فإن تلك الحرب لم تقتصر على ضفاف القناة، وإنما امتدت من طنجة وأكادير على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلنطي إلى البحرين على الشاطئ الشرقي للجزيرة العربية المطل على الخليج.
كما اشتعل كل ما كان بينهما، بهتاف كمال عبد الحليم الخالد في نشيد «الله أكبر»: «دع قناتي فمياهي مغرقة. دع سمائي فسمائي محرقة. واحذر الأرض؛ فأرضي صاعقة». في حرب السويس كانت أسلحة المقاومة والصمود والتضامن هي الطريق إلى نظام إقليمي جديد، رحلت فيه قوات الاستعمار البريطاني عن شرق السويس، وسقطت أساطير الاستعمار القديم في المنطقة ككل.
وتجسد حرب غزة مرحلة جديدة من مراحل إعادة صياغة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. إنها ليست حرب الغزاويين فقط، وليست حرب الفلسطينيين فقط، وليست حرب اللبنانيين فقط. إنها حرب كل شعوب المنطقة التي نعيش فيها، بكل من فيها من شعوب وثقافات وديانات وحضارات، بلا تمييز ولا تسلط، لإقامة نظام إقليمي ديمقراطي، يقوم على أسس القبول والتعايش والاحترام المتبادل والتعاون المشترك.
هذه الأسس التي تجسد قيم الحضارة البشرية الرفيعة، تجعل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين جريمة ضد الإنسانية، وتجعل إسرائيل دولة منبوذة في العالم. قد تكون هناك حكومات رديئة في المنطقة والعالم متواطئة مع إسرائيل، لكنها لن تستطيع وقف محركات التاريخ التي ستلفظ الوحشية الإسرائيلية الفظة، وتسقط رموزها.
الآن تدخل حرب غزة، وهي تخطو لنهاية عامها الأول مرحلتها الثانية. ويبدو أن حكومة حركة أنصار الله في اليمن قد أطلقت بالفعل صافرة البداية لتلك المرحلة، بالضربة الصاروخية التي وجهتها إلى تل أبيب في 15 من الشهر الحالي. فقد حملت هذه الضربة معها خمس دلالات سياسية وعسكرية ذات طابع استراتيجي، لا تستطيع إسرائيل إنكارها.
*الدلالة الأولى، هي أن القوات اليمنية استطاعت تطوير صواريخ باليستية فائقة السرعة، تطير بخمسة أضعاف سرعة الصوت على الأقل، وأتقنت تقنيات إطلاقها، واستطاعت أن تصل إلى الهدف. وقد نجحت في تحقيق ذلك مع أنها لا تنفق عشرات المليارات من الدولارات على استيراد السلاح. كما أنها أثبتت أن الهجمات التي شنتها الطائرات الإسرائيلية على ميناء الحديدة، ومواقع عسكرية أخرى في اليمن في شهر يوليو لم تكن له قيمة، بل إنها أرسلت رسالة قوية بأنها تستطيع أن تصل إلى تل أبيب وأن تصيب أهدافها أو تقترب منها ليس بواسطة طائرات مسيرة فقط، ولكن أيضا بصواريخ متطورة فائقة السرعة.
*الدلالة الثانية، هي أن الضربة الصاروخية اليمنية جاءت بعد نحو عام من الهجوم الفلسطيني على مستوطنات شرق قطاع غزة، لتؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل فشلت خلال تلك الفترة في إعادة تثبيت استراتيجية الردع، التي سقطت في 7 أكتوبر الماضي. لقد اعتقدت إسرائيل إنها تستطيع إعادة بعث قوتها على الردع بواسطة قتل عشرات الآلاف من الأبرياء، أكثرهم من الأطفال والنساء، وتدمير عشرات الآلاف من البنايات والمساكن، وتخريب البنية الأساسية الفلسطينية في غزة. لكن هيهات هيهات أن يحقق لها ذلك إعادة تثبيت قوتها على الردع، التي كانت تتغنى بها فأسقطتها المقاومة الفلسطينية في 3 ساعات.
إن الضربة الصاروخية اليمنية قد وضعت القيادة السياسة والعسكرية الإسرائيلية أمام اختبار ثبت فيه عجز أجهزة التعرف والرصد، وأنظمة الإنذار المبكر، ومنظومات الاعتراض الجوي والصاروخي عن اعتراض الصاروخ. في نهاية الأمر تحاول القيادة الإسرائيلية الهروب من الاعتراف بالعجز والفشل إلى تفسير ما حدث بأنه «خطأ بشري»! ونحن نعلم بحكم الخبرة، ويعلم خبراء الدفاع الجوي المتطور في العالم كله، أن ما حدث في 15 من الشهر الحالي إنما يعيد تأكيد سقوط استراتيجية الردع الإسرائيلية وعجز القيادة عن إعادة تثبيتها.
*الدلالة الثالثة، هي أن الضربة اليمنية التي انطلقت على الأرجح من موقع للإطلاق في شمال غرب اليمن، أثبتت عدم مصداقية شبكة النظام الدفاعي الجوي والصاروخي الأمريكي، الذي تديره القيادة العسكرية المركزية في الشرق الأوسط «سنتكوم» بالمشاركة مع إسرائيل.
هذا النظام يضم أيضا عددا من الدول العربية التي تتوهم حكوماتها أنها تصبح في أمان، إذا التحفت بلحاف منظومات الأمن الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط. لقد انطلق الصاروخ من موقع الإطلاق، مخلفا وراءه كمية هائلة وغير مسبوقة من الحرارة والترددات الحرارية مع احتراق وقود الإطلاق. ومن المفترض أن أجهزة الرادار المتقدمة ترصد، أول ما ترصد في منظومات الرصد الصاروخي كمية التردد الحراري المرافقة لإطلاق الصواريخ، من خلال أجهزة الرصد والإنذار المبكر. ويترافق مع ذلك إرسال إشارات الرصد إلى غرف العمليات.
ثم تقرر القيادات العسكرية طريقة الرد، طبقا لتحليل المعلومات وتحديد طبيعة الهدف، الذي يكون قد ظهر بالفعل خلال ثوان على شاشات الرصد. وقد أنفقت الولايات المتحدة مبالغ طائلة على بناء هذا النظام، وفي مجال التدريب عليه، سواء في إسرائيل أو في المملكة السعودية والأردن. كما يتم تطويره وفق منظومة تكنولوجية متقدمة جدا.
وإذا كانت هذه المنظومة قد فشلت في رصد الصاروخ اليمني لحظة الإطلاق، ثم فشلت في رصد مساره في أجواء السعودية والأردن، حتى وصل إلى داخل إسرائيل، فإن هذا يعزز فرضية انه صاروخ «فرط صوتي» وفرضية أن منظومة الدفاع الجوي والصاروخي (تشمل أيضا رصد واعتراض الطائرات المسيرة) هي منظومة فاشلة.
اقرأ ايضا| المرأة في غزة.. والقدرة على الصمود وسط الحرب
ومما يثير السخرية في عملية اعتراض إسرائيل للصاروخ بعد اختراقه مجالها الجوي، من دون أن تعرف، إنها بدأت عملية الاعتراض باستخدام صواريخ القبة الحديدية أولا، وهو ما يعني أنها لم تكن على دراية بطبيعة الهدف. فلما فشلت القبة انتقلت لاستخدام صواريخ «آرو»، وهي أكثر منظومات الصواريخ تقدما في العالم، ولكنها مصممة لاعتراض الصواريخ في الفضاء الخارجي وليس في المجال الجوي المحلي.
*الدلالة الرابعة، هي أن تطوير القوة الصاروخية اليمنية إلى هذا المستوى الرفيع يمثل رسالة تحذير للدول التي يراودها التطبيع مع إسرائيل في الجزيرة العربية والقرن الافريقي، أو في نطاق مدى الصواريخ اليمنية بشكل عام. وقد سعت إدارة بايدن إلى ضم دول أخرى عربية وإسلامية إلى اتفاقيات أبراهام ولكنها فشلت.
وطبقا لتقديرات عدد من مراكز التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة، منها «معهد واشنطن»، وفي إسرائيل، منها «معهد مسغاف»، فإن السعي لتوسيع تلك الاتفاقيات يجب أن لا يتوقف، لأنها تمثل الإطار القانوني واللوجستي السياسي والاقتصادي والعسكري لإقامة نظام إقليمي جديد، يضمن خضوع منطقة الشرق الأوسط لإرادة إسرائيل والولايات المتحدة لفترة طويلة مقبلة من الزمن.
وجاءت رسالة حركة أنصار الله إليهم جميعا في يوم الذكرى الرابعة لتوقيع الاتفاقيات، لتكون تحذيرا من الانزلاق إلى عمل ينطوي على تحالف مع إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، أو توسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. وتعرف الآن الدول المنضمة لتلك الاتفاقيات، والمدعوة إليها أنها لن تتمتع بالأمن في ظلها، وأن القوى التي تزعم القدرة على حمايتها لا تستطيع حماية نفسها.
*الدلالة الخامسة، هي الإسهام في تعزيز روح الصمود والمقاومة، من خلال تطوير منظومة غرفة العمليات المشتركة للمقاومة. وقد لاحظنا أن يوم 15 من الشهر الحالي قد شهد، إلى جانب ضربة الصاروخ اليمني، عددا من العمليات المتزامنة في رفح وغزة والجليل الأعلى والضفة الغربية، تثبت وجود درجة عالية من التنسيق على محور المقاومة.
ورغم أن قيادات الجيش الإسرائيلي تزعم إنها قادرة على خوض الحرب على جبهات متعددة في وقت واحد، فإن هذا الزعم تنقصه المصداقية، خصوصا في حرب استنزاف طويلة الأمد. وإذا استطاعت المقاومة تنشيط العمليات العسكرية المتزامنة بواسطة غرفة عمليات موحدة، فإن الجيش الإسرائيلي سيصاب بعدم القدرة على تركيز المجهود الرئيسي، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف الروح المعنوية، وضعف الأداء التكتيكي، والحاجة إلى كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر، وأعداد كبيرة جدا من الأفراد لمواصلة شن هجمات في الشرق والجنوب والشمال.