تنتاب فلسطينيين كثيرين مخاوف مشروعة من أن سقوط نظام بشّار الأسد في سورية، بما يعنيه من تراجع نفوذ إيران في المنطقة، شكّل ضربة للمقاومة وللقضية الفلسطينية، نتيجة اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل وأميركا. وكذلك بعد أن سلّم النظام العربي الرسمي أمره لواشنطن، وتهافتَ على التطبيع مع العدو الصهيوني، حتى إن أنظمة تعتبر تل أبيب الحليف والصديق الأقرب لها.
شكّل دعم إيران حركتي حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في مقاومتهم المشروعة ضد النظام الصهيوني الكولونيالي العنصري عاملاً رئيساً في دعم المقاومة واستمراريّتها. وسوف تنقطع الإمدادات عن شعبٍ محتلٍّ محظور عليه المقاومة، وممنوع على أحد أن يسانده. وقد شهدنا الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب اللبناني والحرب المنظّمة لتدمير حزب الله واغتيال قادته وتدمير الضاحية الجنوبية وقرى ومدن لبنانية. وكان لاغتيال حسن نصرالله دلالة أكثر أهمية من مجرد اغتيال قائد؛ فصمت الدول العربية وتواطؤ معظم الأحزاب اللبنانية وتخاذل “حلفاء” حزب الله أكبر برهان على إعلان مرحلة جديدة من الانصياع إلى أميركا وعزل الشعب الفلسطيني عن الشعوب العربية، فإسرائيل لم توظف كل الوسائل التكنولوجية والعسكرية للقضاء على نصرالله وقيادات الحزب وكوادره عقاباً على تدخّله في سورية، وإنما لوقوقه إلى جانب الشعب الفلسطيني.
قاوم حزب الله وما زال يقاوم، لكن ما ثبت أن لدى إيران حدوداً لتنفيذ سقف تهديداتها ضد إسرائيل. صحيحٌ أنها أطلقت مُسيّرات وصواريخ على إسرائيل، فيما تصدت دول عربية لعدد منها إرضاء لواشنطن، لكن لطهران مصالح، بوصفها قوة إقليمية، تريد أن تحسّن شروط تفاوضها مع واشنطن، وليس هدفها المشاركة أو دعم نضالٍ مستمرٍّ لتحرير فلسطين، فبقي حزب الله شبه وحيد في المعركة.
أما نظام الأسد، فبدأ مبكّراً التوجه نحو معسكر التطبيع، فكانت أول زيارة للرئيس المخلوع، بشار الأسد، إلى الإمارات بعد أقل من سنتين على توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تجاوزت مرحلة التطبيع فيها إلى السماح بترويج الرواية الصهيونية. لكن الأسد سارع، في الآونة الأخيرة، بالابتعاد عن إيران وحزب الله، كجزء من تقديم أوراق اعتماد جديدة لواشنطن، فكانت النتيجة أن تخلت طهران وموسكو عنه، فالنظام الذي رفع شعار المقاومة، ولم يتحدث عن الجولان المحتل ولم يطالب بمناقشة موضوع المستوطنات التي بنتها إسرائيل هناك، ويجعل “الحدود” آمنة لإسرائيل، كان همّه الوحيد البقاء في السلطة.
المقصود مما تقدم أن الموازين كانت مختلة أصلا، لأن الموقف العربي، الذي هو الأساس لمساندة فلسطين، آثرت قياداته التخاذل لمهادنة أميركا، ولذا استشرست إسرائيل في حرب الإبادة المستمرّة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، وتنكيلها بالفلسطينيين في الضفة الغربية.
إقرأ أيضا : أفريقيا ولعبة التوازنات الدولية
ما أزعج إسرائيل ليس الأسد، وإنما استمرار الإمدادات الإيرانية لحزب الله عبر سورية، واستضافة دمشق فصائل فلسطينية، وكانت مصلحتها ثني الأسد عن ذلك، بشرط أن يوافق على شروط التبعية. لذا؛ بعد أن سقط الأسد غزت إسرائيل سورية، واحتلت أجزاء منها، لتفرض هي وأميركا إملاءات استسلام على النظام الذي لم يتشكل بعد في بلد عربي رئيسي، وليس مستغرباً إذا بدأت إسرائيل ببناء مستوطنات يهودية داخل الأراضي التي احتلتها بعد مغادرة الأسد.
نعم، زادت موازين القوى اختلالاً لصالح إسرائيل، خصوصاً أننا لا نعرف مستقبل سورية، لكن فرح السوريين بإسقاط النظام الدموي مفهوم، فقد تحمّل الشعب السوري طويلا نير الاستبداد، المسؤول الأول عن اختلال النظام العربي الرسمي الذي يبيح التجبّر والظلم والاستسلام لإسرائيل.
لو كان هناك نظام عربي رسمي متمسّك بأدنى درجات التضامن، لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه، ففلسطين وسورية والأردن والعالم العربي كله مهدّد من إسرائيل، والمحزن أن تفيق سورية من التحرّر من الاستبداد لتجد مدناً فيها محتلة من إسرائيل.
صحيح أن هناك قرارات، أهمها الصادرة عن لقاء العقبة في الأردن، الذي أكد وحدة سورية ودان الاحتلال الإسرائيلي، لكن الأنظمة كلها تهيّئ نفسها لاتقاء سطوة الرئيس الأميركي القادم، دونالد ترامب، بما يعني القبول “بالأمر الواقع”، وتوقف حتى التصريحات القوية لفظياً ضد إسرائيل. ولا معنى لدى ترامب لحقوق أو تحرّر، فما يهمه “أميركا أولاً” ويجب إزالة كل العقبات أمام إحكام هيمنة واشنطن على العالم في مواجهة صعود الصين، وأي قوى إقليمية، خصوصاً أن إسرائيل نجحت بحروبها التدميرية وارتكاب إبادة بشرية أمام أنظار العالم، ما جعل الأنظمة الذليلة أكثر ذلاً واستجداء.
يدخل الفلسطينيون مرحلة “أكثر خطورة”، وإنْ كنا جميعاً استخدمنا التعبير نفسه في مراحل عدة، لكنها، الآن، الأشد خطورة في تاريخ المأساة والنضال الفلسطينيين. ويعتمد الوضع كثيراً على شكل النظام القادم في سورية، خصوصاً أن كل القوى تتنافس على الهيمنة عليه. والشرط الأكثر أهمية في العادة لأميركا حماية إسرائيل إن لم يكن التطبيع معها والتبعية لها، وما التشدّق بحقوق الأقليات إلا لكسب الشعب السوري، فيما برّرت واشنطن الاحتلال الإسرائيلي الجديد بخطوات ضرورية لضمان “أمنها”.
قد يكون غريباً أن كثيرين، حتى داخل سورية، منهمكون في النقاش حول شكل النظام، ورفض دولة إسلامية، إذ لا يريد السوريون التخلّص من نظام قمعي، للانتقال إلى شكل تسلّطي يكبت الحريات تحت شعار الدين أو التفرّد بالسلطة. لكن، هناك احتلال عسكري إسرائيلي لم يصل بعد إلى مرحلة أن يتصدّر النقاش.
إذ يبدو أن كثيرين أقنعوا أنفسهم أن إسرائيل سوف تخرج بعد أن تتأكد أن سورية اليوم دولة “مسالمة”، علماً أن سورية في عهد النظام السابق لم ترم طلقة واحدة ضد إسرائيل منذ اتفاقية فك الاشتباك عام 1974، أو أن ليس هناك مشكلة مع إسرائيل بعد خروج حزب الله من سورية. … ورويداً رويداً يتضح لنا أنه لا يوجد فهم كافٍ لإسرائيل عند عربٍ كثيرين؛ في الحالة السورية، قد يكون تشدق النظام بالمقاومة والالتزام بفلسطين أوجد ردّة فعلٍ عكسيٍّة عند بعض السوريين. المهم أن يكون هناك وعي بالتهديد الإسرائيلي خوفاً على سورية، قبل أن يكون هنك خوف على فلسطين القابعة تحت الاحتلال الصهيوني من أكثر من سبعة عقود.
يجب أن لا يجعلنا اختلال موازين القوى غير المسبوق نيأس؛ فالشعب الفلسطيني قاوم قبل النكبة (1948) وما زال يقاوم، وغرض إسرائيل محو الهوية الفلسطينية لن ينجح، وسوف تصحو الشعوب العربية على خطر إسرائيل، برغم قمع الأنظمة لمناهضي التطبيع وقوى التحرّر، فإسرائيل لا تحترم شعوباً ولا أنظمة.