عندما حكم السادات فى ١٩٧٠، أخرج جميع أعضائهم من السجون، ومن جحور الاختباء، وسمح للهاربين خارج مصر بالعودة، وأعطاهم الجنسية المصرية، ومنح الجنسية المصرية لمنْ سحبتهم منهم، وأعطاهم الحرية الكاملة، لاستعادة نشاطهم، وبناء قوتهم، ولقب نفسه بـ«الرئيس المؤمن». وكان الهدف هو إضعاف التيارات اليسارية الاشتراكية والشيوعية، والقضاء على بقايا النظام الناصرى.
وعند بداية الثمانينيات من القرن الماضى، كانت هذه التيارات التكفيرية الجهادية المسلحة، قد توغلت، وازدهرت. فى يوم ٣ سبتمبر ١٩٨١، بدأ السادات حملة اعتقالات واسعة شملت ١٥٣٦، من رموز المعارضة الفكرية والسياسية. وفى ٥ سبتمبر ألقى خطابه الأخير، واستمر ثلاث ساعات، اعترف بأنه «ندم» على فتح الأبواب للإخوان، وتيارات استغلال الدين فى السياسة، وقال: «أنا غلطان، كان لازم يفضلوا فى السجون مطرح ما كانوا». وقرأ ما حصل عليه من وثائق وأوراق تدين الإخوان، وتيارات الإسلام السياسى، بأحداث الفتنة، وترويج الشائعات، وتكفير نظام الحكم، والقضاء عليه، بدعم من بعض الدول، وتوعد بأخذ الإجراءات الفورية الصارمة، لمطاردتهم، وملاحقتهم، وإرجاعهم إلى السجون، حيث أماكنهم الأصلية.
بعد شهر واحد بالضبط، وفى ٦ أكتوبر ١٩٨١، اغتيل السادات على يد الجماعة الإسلامية، وجماعة الجهاد، بإشراف وتنسيق ودعم الإخوان المسلمين، وبتحريض من فتوى عمر عبد الرحمن، مفتى الجماعة الإسلامية.
اقرأ أيضا.. مصر وأرض الصومال مواجهة غير مباشرة
فى الندوة الشهيرة بمعرض الكتاب، فى ٧ يناير ١٩٩٢، بعنوان «مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية». يمثل الدولة الإسلامية، الشيخ محمد الغزالى، ومرشد الإخوان مأمون الهضيبى، والكاتب الإسلامى النازح من الماركسية، محمد عمارة. بينما يمثل الدولة المدنية فرج فودة، محمد أحمد خلف الله، عضو حزب التجمع. حضر الندوة ما يقرب من أربعين ألف شخص، من كافة تيارات الإسلام السياسى الجهادى التكفيرى، التى بدأت بالتكبير والهتافات، فى صوت واحد، صاخب، كأنها تحارب فى إحدى الغزوات الإسلامية: «الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا». نجح فرج فودة، بكلامه العقلانى، وسرعة البديهة، واللباقة، وسعة اطلاعه على التراث الإسلامى، وخفة الظل المثقفة، والكاريزما المميزة له، وثباته الانفعالى وهدوئه، فى الانتصار للدولة المدنية، وإلحاق الهزيمة بالدولة الدينية. وأوضح أن الإسلام كدين، لا غبار عليه، لكن الإسلام كدولة، مرفوض. وأينما ذهب الحكم الإسلامى، تحل المآسى، والديكتاتورية، وبحور الدم، كما يحدث فى إيران بعد الثورة الإسلامية الشيعية ١٩٧٩.
بعد الندوة أصدرت جبهة علماء الأزهر بيانًا شديد اللهجة، يكفر فرج فودة بشكل صريح، ويوجب قتله. وأيد البيان الشيخ عمر عبدالرحمن، والشيخ الغزالى الأزهرى، والتيارات الإسلامية الجهادية المسلحة، والتى وزعت منشور البيان فى كل مكان، ونشرته جريدة «النور» لسان حال الإسلام السياسى. وفى التليفزيون المصرى، رأينا الشيخ الغزالى يقول: «منْ ينادى بالعلمانية كافر ومرتد ويستحق القتل، مثل فرج فودة». فى ٨ يونيو ١٩٩٢، بعد خمسة شهور بالضبط من تاريخ الندوة، تم اغتيال فرج فودة، من قبل الجماعة الإسلامية، وتحريض مباشر من الإخوان، ومباركة من كل الفرق الإسلامية الجهادية. بسبب التيارات التكفيرية الجهادية المسلحة، عاش الشعب المصرى، كوابيس الإرهاب، وحوادث قتل السياح، والمصلين فى الكنائس، واستهداف القطارات، ووسائل النقل العام، ومحال الجواهرجية الأقباط، حيث تقتحم فى وضح النهار، يذبحون صاحبها ويستولون على بضاعته. عاصرنا التفجيرات العشوائية فى أماكن متفرقة، لإثارة الفزع والرعب. وجاء وقت كان المواطن المصرى يخرج من بيته ولا يعلم إن كان سيرجع إلى أهله، سالمًا، والمواطنة المصرية تخرج من بيتها وتودع أمها وأباها وأطفالها، الوداع الأخير، فقد تدخل فى عداد «المفقودات»، أو ترجع أشلاء فى أكياس.
فقدنا الشهداء من الشعب مسلمين ومسيحيين، ومن الجيش والشرطة، والقضاة والمفكرين، على يد الإخوان، وأتباعهم. حسب رأيهم، كلنا «كفار»، لا نقيم شرع الله على الأرض.
أستعيد تلك المشاهد المتناثرة، ونحن نحتفل بانتصارات أكتوبر، حتى لا ننسى حقيقة أعداء الوطن، وإن تستروا، أو تجملوا، أو صبغوا وجوههم. يجب أن نتذكر دائمًا تاريخ أصحاب الأيادى الملطخة بالدماء، وأصحاب التحريض على التكفير واستحلال الدم، والتحالفات التى تتم بين الفرق الجهادية الإسلامية المسلحة، على مستوى التكتيك والخطط قصيرة الأجل. فالجميع خرجوا من عباءة الإخوان المسلمين. والجميع متفقون على استعادة الخلافة، وتطبيق حدود وشرع الله.
علينا ألا ننخدع. هناك أصوات مشبوهة، تظهر من حين لآخر، تأكل على كل الموائد، ولو كانت ولائمها من لحم ودم البشر، ترى أن «الإخوان» قامت بمراجعات فكرية، وغيرت من أساليب عملها، وبالتالى يمكنها المشاركة فى الحياة السياسية المصرية، مما يفيد الديمقراطية. هذا بالضبط، مثل وضع السُم فى العسل. فالإخوان، منذ تأسيسها ١٩٢٨ فى مصر، على يد حسن البنا، والعنف والدم والاغتيالات والتصفية والتهديد والارهاب، هو عنوان جهادها فى سبيل الله. ولا شىء سوف يغيرها. والسبب، بكل بساطة، أن حلمها لإعادة الخلافة ليس له أرض صلبة للوقوف عليها، وهو ضد الزمن والعقل والمنطق والعلم والتعايش السلمى، والعدالة، والمواطنة. وبالتالى هى مضطرة إلى فرضه بالقوة، والدم، لتزييف صلاحيته، ومصداقيته. يجب أن نتذكر دائمًا أن جميع المطالبين بالدولة الإسلامية والحكم الإسلامى لا يؤمنون أصلًا بفكرة «الوطن». إن «مصر» حاضرة لديهم، فقط كإمارة أو ولاية، تحت الحكم الإسلامى. الوطن يختفى تمامًا. الاسلام أينما كان هو الوطن. فى دمائهم الغدر والخيانة. فالسادات الذى منحهم امتيازات، وحرية حركة، لم تخطر على خيالهم، تآمروا عليه، وقتلوه فى يوم النصر. فماذا هم فاعلون، لمنْ يضيّق عليهم، ويكشف حقيقتهم؟.
إن «الإخوان» وأتباعها، مازالوا موجودين فى بلادنا. ربما خرجوا بأجسادهم فقط. لكنهم زرعوا البذور، حتى صارت أشجارًا كثيفة عتيدة فى التربة المصرية. لقد استهدفوا تحجيب الفتيات والنساء، والفن، والإعلام، وقوانين الأحوال الشخصية، وترسيخ تعدد الزوجات، والترويج لزواج القاصرات، ونجحوا فى ذلك، مع إشاعة مناخ العنف والعدوانية، والعنصرية، واستعادة كراهيات، وفتن قديمة.
رأينا، كيف يتم إبادة إحدى المنظمات الإرهابية التكفيرية الجهادية، ولا يكاد يمر وقت، حتى تفاجئنا ولادة أخرى، باسم مختلف! صحيح أن مصادر التمويل قد انحسرت بشكل كبير، لكنها لم تنقطع بشكل نهائى.
تأسست «الإخوان» فى أرضنا، وهذا يكفيها، لتبدأ الخلافة من مصر. فهل لدينا اليقظة، والوعى، وحب الوطن، لكى نقف لها بالمرصاد؟!.
خِتامه شِعر
أحيانًا أشعر أن الحياة عادلة/ لا ترضى بأن يُهان العظماء/ ولا تسمح بأن تغرد طيورها/ إلا لمنْ يجيد فن الإصغاء/ وأنها ليست حرثًا فى البحر / شعارها أن «لكل مجتهد نصيب»/ وأحيانًا أشعر أنها لعبة منفلتة/ مثل المراهنات فى أسواق البورصة/ وأندية القمار وسباقات جرى الخيول/ نبوءة تحققت بالبركة ودعاء الوالدين/ لا قواعد.. لا منطق/ ضربة حظ أصابت/ وربحت ورقة اليانصيب.