مع تصاعد التنافس الدولي وتفاقم الانقسامات بين القوى الغربية، تجد الحكومات الأفريقية ذات النفوذ فرصًا جديدة لتعزيز موقعها الاستراتيجي. فقد أدى تراجع أنظمة المساعدات الدولية إلى إحباط الليبراليين الغربيين، بينما لم يُثر القلق نفسه لدى القادة السياسيين في آسيا وأفريقيا، حيث لم تتأثر مصالحهم بشكل ملموس.
تراجع ميزانيات المساعدات وتأثيره على الصحة العامة
تعتمد العديد من الدول الأفريقية على المساعدات الدولية لتمويل قطاع الصحة العامة. ومع تفكيك الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، تراجعت ميزانيات المساعدات بشكل ملحوظ، مما أدى إلى إغلاق برامج حيوية مثل “بيبفار”، الذي ساهم في إنقاذ أكثر من 25 مليون شخص من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. وتشير التقديرات إلى أن تقليص المساعدات قد يؤدي إلى وفاة ما بين 71 ألفًا و166 ألف شخص بسبب الملاريا، بالإضافة إلى وفاة مليون طفل سنويًا بسبب سوء التغذية.
هذا الانخفاض يتماشى مع التوجه العام للغرب في تقليص ميزانيات المساعدات، حيث خفّضت سبع حكومات، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، ما مجموعه 17.2 مليار دولار من المساعدات العام الماضي. كما أعلنت بريطانيا في فبراير عن تقليص ميزانيتها للمساعدات بمقدار 7.6 مليار دولار، موجهة هذه الأموال نحو إعادة التسلح الأوروبي.
رغم ما تدّعيه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن الإنفاق على المساعدات الخارجية بلغ مستوى قياسيًا قدره 265 مليار دولار العام الماضي، فإن هذه الأرقام مضللة. ففي العديد من الدول الأوروبية، استُخدم جزء كبير من هذا التمويل محليًا في إيواء طالبي اللجوء، وتمويل مشاريع أمنية، وتنفيذ سياسات تهدف إلى الحد من الهجرة. أما في الولايات المتحدة، فتذهب أكثر من 70% من ميزانية المساعدات إلى الشركات الوطنية، ما يعني أن المساعدات تخدم المصالح الداخلية بقدر ما تخدم الدول المتلقية.
التغيرات الجذرية في النظام الدولي
مع تزايد الانقسامات بين القوى العالمية، يبرز تساؤل أساسي: هل سيؤدي هذا إلى تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، أم أنه سيمهد الطريق لنظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر تنافسية؟ بالنسبة لأفريقيا، يُمكن أن يوفر هذا الوضع فرصة لاختيار الشركاء وفقًا لاستراتيجية “الاستقلال الاستراتيجي”، التي يتبناها بعض القادة الأفارقة مثل وزير الخارجية النيجيري يوسف توغار.
أولويات جديدة في مجال الطاقة
في ظل انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، تظهر فجوة تمويلية سنوية تُقدّر بنحو 500 مليون دولار، وهو ما قد تستغله قوى أخرى لتعزيز نفوذها، لا سيما في مجالات الصحة العامة والأدوية.
لكن الأثر الاستراتيجي الأكبر يتمثل في انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، مما يمنح الصين والدول الخليجية ميزة تنافسية في قطاع الطاقة المتجددة. وبالفعل، تهيمن الصين على صناعة الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية، فيما تركز الاقتصادات الأفريقية على تأمين إمدادات موثوقة من الطاقة، بما في ذلك النفط والغاز، بالتوازي مع تعزيز قدراتها في مجال الطاقة المتجددة. ومن المتوقع أن يُختبر مدى قوة هذه التحالفات خلال مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP30) المزمع عقده في البرازيل في نوفمبر المقبل.
تصاعد التنافس التجاري وإعادة هيكلة النظام المالي
يشهد النظام التجاري العالمي اضطرابات متزايدة، خاصة مع انسحاب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية بعد فرضها رسومًا جمركية أحادية الجانب. ومن المتوقع أن تتصدر الصين، الاتحاد الأوروبي، والهند المشهد التجاري العالمي، مما يمنح الاقتصادات الأفريقية فرصة أكبر لطرح مطالبها على طاولة المفاوضات.
وفي سياق آخر، يزداد التوتر بشأن الضرائب على الشركات متعددة الجنسيات، حيث انسحبت الولايات المتحدة من المفاوضات الدولية التي تضم 140 دولة. وقد يؤدي ذلك إلى معارك قانونية حادة بين الشركات الأمريكية والحكومات الساعية إلى فرض ضرائب أكثر عدالة.
إصلاح النظام المالي العالمي: فرصة لأفريقيا؟
لتحقيق أهدافها في خفض تكاليف رأس المال وإعادة هيكلة الديون، تسعى أفريقيا إلى إصلاح مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن استمرار الولايات المتحدة في فرض رقابة صارمة على هذه المؤسسات قد يدفع العديد من الدول النامية إلى البحث عن بدائل، مثل مجموعة “بريكس+” المدعومة من الصين، والتي توفر خيارات تمويلية أكثر مرونة.
في ظل هذه التحولات، تمتلك أفريقيا فرصة لإعادة صياغة دورها في النظام العالمي، مستفيدةً من التنافس بين القوى الكبرى لتعزيز استقلالها الاستراتيجي وتحقيق مكاسب اقتصادية مستدامة.