ملفات فلسطينية

هل تنجح حكومة محمد مصطفى في التغلب على تحديات الاصلاح؟

لا شك أن عملية الإصلاح ستمس بمصالح فئات كثيرة في المجتمع وفي هذه الحالة تلجأ الحكومة عادة لممثلي الشعب، ولكن في ظل غياب المجلس التشريعي يجب ان تلجأ الحكومة إلى أكبر قاعدة شعبية متاحة في محاولة للتغلب على فقدان الثقة.

تشكلت حكومة الدكتور محمد مصطفى في ظل ظروف صعبة يمر بها الشعب الفلسطيني، فقد تشكلت الحكومة في ظل تعرض الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لعدوان وابادة جماعية. يرافق هذا العدوان تصاعد الاعتداءات الاسرائيلية في الضفة الغربية من قتل وتهجير وتدمير ومصادرة اراضي واعتقالات وغيرها، بالمقابل تمر السلطة الفلسطينية بأسوأ اوقاتها منذ نشأتها من حيث الضعف وعدم القدرة على الايفاء بالتزاماتها تجاه المواطنين الفلسطينيين، إضافة لتراجع الثقة في السلطة الفلسطينية ومؤسساتها إلى أدني مستوى منذ نشأة السلطة الفلسطينية قبل 30 عاما.

جاء تشكيل هذه الحكومة بناء على الضغط الدولي (الامريكي والاوروبي) حينما طالبوا بضرورة وجود سلطة متجددة يستطيعون التعاون معها حول المستقبل الفلسطيني وان تكون حكومة مهنية غير سياسية.

قدمت الحكومة برنامجها الذي احتوى على 7 محاور رئيسية منها محور الإصلاح المؤسسي. وبإلقاء نظرة سريعة على برنامج الاصلاح المؤسسي فقد احتوى على بندين:

• تطوير خطة الإصلاح المؤسسي بحيث تشمل كافة المجالات الاقتصادية، والأمنية، والقضائية، والمالية والإدارة العامة (بما يشمل المسؤولية المالية وشفافية الموازنة وكفاءة تخصيص الموارد وإدارة النفقات)، والصحة والتعليم.

• قيام الحكومة بتشكيل فريق عمل وزاري لتنسيق وقيادة عملية الإصلاح. وقد اقرت الحكومة مهام اللجنة الوزارية وخطة عملها، وبمجالات الإصلاح وقطاعاته، وتتلخص في عشرة محاور، هي: تعزيز مبادئ الحكومة والشفافية والمحاسبة ومكافحة الفساد، وتحسين قطاع العدالة وتعزيز سيادة القانون، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعزيز كفاءة القطاع العام وقدراته، وإصلاح قطاع الأمن وتعزيز السلم الأهلي، وتحسين جودة الخدمات مثل الصحة والتعليم، وإصلاح الأوضاع المالية العامة، وتحسين قطاع الحكم المحلي، ودمج التحول الرقمي في القطاعات الإنتاجية والخدمية، وتعزيز القطاع الاقتصادي وتطويره.

لغاية اللحظة، بعد حوالي ثلاثة أشهر على تقديم برنامج الحكومة، لم تنشر الحكومة اي شيء عن مضمون خطة الاصلاح. أغفل البيان الوزاري كيف ستتمكن هذه الحكومة من إجراء الاصلاحات، وما يميزها عن غيرها من الحكومات السابقة لتنجح في اجراء الاصلاحات ومحاربة الفساد، وهل أن الدعم الامريكي (المعنوي) الذي حصلت عليه الحكومة قادر على تجاوز التحديات المختلفة، وهل هناك دعم من الرئيس عباس، يختلف عن الدعم الذي أعطاه للحكومة السابقة، لتتمكن حكومة مصطفى من انجاز برنامجها.

تهدف هذه الورقة لأمرين:

1) لفحص التحديات والعقبات التي تحول دون تطبيق الحكومة الراهنة للإصلاحات المقترحة في برنامجها من خلال مراجعة اسباب فشل البرامج الاصلاحية المختلفة للحكومات الفلسطينية المتعاقبة،

2) وضع التوصيات للمضي قدما في عملية اصلاح لكافة مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني.
تستند هذه الورقة إلى لقاءات مع أطراف فلسطينية مختلفة ذات اطلاع على تطورات عملية الاصلاح، وإلى نتائج استطلاعات الرأي العام التي اجريت خلال العامين الماضيين، بالإضافة الى عدد من التقارير المختصة الصادرة عن جهات الاختصاص. تنتهي الورقة بتقدير لإمكانية نجاح حكومة مصطفى في التغلب على تحديات عملية الإصلاح.

تحديات كثيرة وانجازات محدودة في مجال الاصلاح

تعود دعوات الإصلاح في مؤسسات السلطة الفلسطينية إلى عام 1997 حينما صدر تقرير هيئة الرقابة العامة حول الفساد في مؤسسات السلطة. وكان لهذا التقرير صدى كبير في المجتمع الفلسطيني بكافة مؤسساته، وأعقب هذا التقرير، صدور تقرير آخر عن المجلس التشريعي بعد أن شكل المجلس لجنة لدراسة تقرير هيئة الرقابة العامة حول الفساد الإداري والمالي في مؤسسات السلطة. ثم توالت الدعوات لإجراء الإصلاح. أما على المستوى الخارجي فقد صدرت عدة دعوات للإصلاح في مؤسسات السلطة الفلسطينية وكان أبرزها التقرير الصادر عن فريق العمل المستقل لتقوية مؤسسات السلطة الوطنية في عام 1999 (أو ما يعرف بتقرير روكارد).

استمرت دعوات وجهود الاصلاح الفلسطينية طوال السنوات الماضية فجميع الحكومات الفلسطينية السابقة تبنت برامج اصلاحية طموحة تحطمت امام مجموعة من التحديات والعقبات التي تحول دون انجاز هذه الإصلاحات. تتنوع التحديات ومصادرها. بعض هذه التحديات خارجية مثل الاحتلال الاسرائيلي والضغوط الخارجية من المانحين وغيرهم، وبعضها ذاتي مثل غياب الارادة السياسية لدى صانع القرار الفلسطيني، وغياب نزاهة الحكم، والتكلفة المالية والسياسية للإصلاح، إلى جانب فقدان النظام السياسي الفلسطيني للشرعية الشعبية منذ 2010، وفقدان ثقة المواطنين بالنظام السياسي بكافة تشكيلاته، اضافة إلى تحديات اخرى سيتم تناولها في متن هذه الورقة النقدية.

يطالب المجتمع الفلسطيني بمجموعة من الاصلاحات تتمثل في ضرورة إجراء الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية، واحترام سيادة القانون، وبناء مؤسسات حكم فعالة ومساءلة، وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات في النظام السياسي، وضمان استقلالية ومهنية الجهاز القضائي، وإعمال مبادئ الشفافية في ممارسة الحكم وإدارة الشأن والمال العام.

التحديات الذاتية:

(١) غياب الارادة السياسية: تشكل الارادة السياسية الركيزة الاساسية لاي عملية اصلاح، من الواضح في الحالة الفلسطينية غياب الارادة السياسية لدى صانع القرار الفلسطيني. يتجلى هذا الغياب في حقيقة انه طوال سنوات الحكومة السابقة لم تكن هناك ارادة جادة للإصلاح، ولو كان هناك ارادة سياسية بالإصلاح لقامت بذلك. بل إن من الواضح أيضا أن الإصلاح لا يأتي الا بالضغوط الخارجية.

كما يتجلى هذا الغياب في حقيقة أنه في الوقت الذي قدمت الحكومة الجديدة بيانها الوزاري، والذي جاء بناء على كتاب التكليف من الرئيس، وتعلن وقف التعيينات في القطاع العام، تظهر فور ذلك العديد من القرارات بقانون والمراسيم الرئاسية لاستحداث مؤسسات عامة جديدة  ولتعيين مستشارين للرئيس . تنعدم الارادة السياسية لعدة أسباب لعل اهمها غياب المساءلة والمحاسبة في النظام السياسي الفلسطيني منذ غياب المجلس التشريعي والتوقف عن القيام بدوره منذ الانقسام في حزيران 2007، اضافة لتضرر مصالح ونفوذ صانع القرار من عملية الاصلاح. من المؤكد ان غياب الارادة السياسية لا يعطي فرصة لتطوير خطة الإصلاح المؤسسي ويبقيها حبرا على ورق غير قابلة للتنفيذ.

(٢) عدم تمكين الحكومة من صلاحياتها: يحدد القانون الأساسي اختصاص رئيس الوزراء ، لكن في ظل غياب المجلس التشريعي أصبح الرئيس الفلسطيني هو مصدر السلطات والتشريعات. بالتالي تأتي حكومة وتذهب حكومة دون قدرتها على ممارسة صلاحياتها التي اقرتها التشريعات الفلسطينية. بل إن هناك تشريعات (قرارات بقانون) تكون مخالفة لنصوص القانون الاساسي الفلسطيني من حيث انها تساهم في اضعاف الحكومة أو تسحب صلاحيات منها لصالح مؤسسة الرئاسة او مؤسسات مرتبطة بالرئاسة.

في ظل هذا الوضع القائم تصبح الحكومة الراهنة مقيدة بأعمالها وغير قادرة على تنفيذ برنامجها الإصلاحي. بل قد يواجه هذا البرنامج، كما نشير أدناه، بالرفض من قبل مراكز قوى داخل السلطة والحزب الحاكم عند تهديد مصالحهم ونفوذهم.

(٣) التكلفة المالية: تحتاج بعض الاصلاحات الادارية لتكلفة مالية تعجز السلطة الفلسطينية عن توفيرها خاصة في ظل الاجراءات العقابية التي يفرضها الاحتلال الاسرائيلي على السلطة الفلسطينية وتراجع الدعم المالي الدولي خلال السنوات العشر الماضية. فعلى سبيل المثال يحتاج الجهاز القضائي إلى تعيين القضاة والاداريين والفنيين في المحاكم، إضافة لبناء مقرات للمحاكم تراعي احتياجات الجهاز القضائي في العديد من المحافظات.

كما ان اصلاح قانون الخدمة المدنية او احالة عدد كبير من الموظفين الحكوميين للتقاعد يحتاج الى تكلفة مالية كبيرة. في ظل العجز المالي التي تعاني منه السلطة، لن تكون قادرة على انجاز العديد من الاصلاحات الإدارية ذات التكلفة المالية العالية.

(٤) التكلفة السياسية: ان التكلفة السياسية لعملية الإصلاح، والمتمثلة بالإضرار بمصالح فئات قريبة من صانع القرار، ستشكل تحديا جوهريا لهذه العملية. شهدت السنوات الماضية قيام تحالف يجمع بين الطبقة السياسية التي تقود السلطة الفلسطينية مع طبقة رجال الاعمال، وبالتالي أصبح النظام غير قادر على اتخاذ قرارات ذات طابع اقتصادي-اجتماعي يستفيد منها القطاع الاكبر من الجمهور الفلسطيني، وذلك حفاظا على مصالح رجال الاعمال المرتبطة بمصالح الطبقة السياسية.

مثلا، قامت الحكومة السابقة بدراسة واقع 109 مؤسسة حكومية غير وزارية من النواحي القانونية والمالية والإدارية بهدف تصويب أوضاعها وبصورة تضمن رشاقة وحيوية وجدوى عمل تلك المؤسسات ، لكنها تمكنت من تحقيق ذلك في 30 مؤسسة فقط ولم تستطع انجاز أكثر من ذلك في هذا الملف بسبب التكلفة المالية والسياسية لهذه العملية وارتباط تلك المؤسسات بمراكز القوى داخل السلطة الفلسطينية، وهو الارتباط الذي حال دون ربط هذه المؤسسات بمؤسسة مجلس الوزراء.

في ضوء الوضع الحالي لن تستطيع الحكومة الجديدة النجاح في هذا الملف بسبب وجود جهات فاعلة فيه غير الحكومة، مثل مكتب الرئيس وغيره من مراكز القوى . من الواضح أن الحكومة تستطيع القيام بذلك فقط في حال منحت كافة صلاحياتها المنصوص عليها وفق القانون، كما أشرنا أعلاه.

(٥) غياب نزاهة الحكم: إن مراجعة لتقرير مؤسسة أمان حول واقع النزاهة ومكافحة الفساد في فلسطين لعام 2022 يتضح إصرار السلطة السياسية على تبني سياسات وإجراءات تهدف لخدمة احتياجات تعزيز سلطة الحكم القائمة وتعزيز مواقعها واستحواذها على مراكز اتخاذ القرار وذلك من خلال التحكم بالتعيينات بمراكز اتخاذ القرار دون الاستناد لمبدأ الشفافية ولمعايير الكفاءة والأهلية، وتبني سياسات واتخاذ قرارات لخدمة السلطة السياسية أو المنتفعين من وجودها دون أنْ تكون للمصلحة العامة.

فعلى سبيل المثال أصدرت السلطة الوطنية عدة قرارات بقانون مناقضة لنزاهة الحكم، كما اشار التقرير السنوي لأمان، منها قرار بقانون معدل لقانون المخابرات العامة، وقرار بقانون لتعديل القرار بقانون بشأن الهيئة القضائية لقوى الامن، والقرار بقانون بشأن تعديل قانون الرسوم القنصلية الذي يقضي بإعفاء موظفي وزارة الخارجية وأقاربهم من الدرجة الأولى من غالبية الرسوم القنصلية دون مبرر واضح لسبب هذا الإعفاء الذي يخرق مفهوم المساواة الذي نص عليه القانون الأساسي الفلسطيني في المادة التاسعة.

ساهمت هذه الامور بإضعاف ثقة المواطنيـن بالمسـؤولين السياسـيين ومؤسسـات الدولـة وما يصدر عنها من قرارات وخطط. وهذا ما اظهره استطلاع الرأي العام الذي جرى في نهاية أيار (مايو) 2024 حيث اعتقد آنذاك 67% من الجمهور أن حكومة محمد مصطفى لن تنجح في إصلاح مؤسسات السلطة الفلسطينية، واعتقد 77% أن الحكومة الجديدة لن تنجح في مكافحة الفساد .

(٦) فقدان شرعية النظام السياسي: يعاني النظام السياسي الفلسطيني من فقدان الشرعية الدستورية والشعبية منذ 2010، الموعد السابق لاجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والتي تعذر أجراؤها طوال السنوات السابقة بسبب الانقسام تارة وبسبب الاحتلال تارة اخرى اضافة لعدم جدية صانع القرار بإجراء تلك الانتخابات.

فمن يدعي المحافظة على شرعية النظام هي الطبقة الحامية للنظام والقوى الاجتماعية المستفيدة منه التي فقدت شرعيتها وثقة الجمهور بها. اظهرت الاستطلاعات في السنوات الاخيرة ارتفاع حالة عدم الرضى عن أداء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهو رأس السلطة التنفيذية، والمشرّع في الوقت ذاته بسبب غياب المجلس التشريعي، فقد بلغت نسبة الرضا عن أدائه 12٪ فقط ونسبة عدم الرضا 86٪. من جانب أخر ازدادت نسبة المطالبين باستقالة الرئيس لتصل إلى 89% في استطلاع الرأي العام في منتصف عام ٢٠٢٤ . تعتبر الانتخابات العامة وتجديد الشرعيات أهم مفتاح للإصلاح السياسي، والخروج من حالة غياب المؤسسة التشريعية.

(٧) سوء الأداء الحكومي: عانت الحكومات الفلسطينية من سوء الاداء خاصة في المجال المالي، فقد فشلت هذه الحكومات بتحقيق عدد من القضايا الاساسية التي تهم المواطنين مثل قانون الضمان الاجتماعي، وفشلت في المحافظة على اموال صندوق التقاعد الخاص بالموظفين العموميين حينما تقاعست عن تحويل اشتراكات ومساهمات الموظفين خلال العشرين عاما الماضية أو ما يزيد.

اظهرت نتائج استطلاع الباروميتر العربي الثامن في نهاية عام ٢٠٢٣ أن هناك سخطاً لدى أغلبية الفلسطينيين فيما يتعلق بأداء الحكومة فيما يتعلق بتقديم الخدمات الأساسية؛ فقد قال 64% أنهم غير راضين عن هذا الأداء بشكل عام، وأشار 51% إلى أنهم غير راضين عن النظام التعليمي، و52% غير راضين عن النظام الصحي، و57% غير راضين عن جودة الشوارع، و53% أنهم غير راضين عن النظافة العامة. وترى أغلبية واسعة تبلغ 79% ان الحكومة غير متجاوبة جدا أو غير متجاوبة على الإطلاق مع ما يريده الناس. وتظهر هذه النتائج انخفاضا في حالة الرضى مقارنة باستطلاع الباروميتر العربي السابع الذي تم إجراؤه قبل ذلك بعامين .

في ظل عدم رضى الجمهور الفلسطيني عن أداء الحكومات المتعاقبة، فإن الخطوات الاصلاحية التي ستقدم عليها الحكومة ستكون مثارا للريبة والشك وقد تواجه برفض شعبي كما حدث عند محاولة تطبيق قانون الضمان الاجتماعي قبل عدة سنوات.

(٨) ضعف ثقة المواطنين بالنظام السياسي: تراجعت ثقة المواطنين بالحكومة واركان النظام السياسي بشكل كبير، وأدى هذا لخلق حركات احتجاجية واضرابات من قبل حراكات ونقابات مهنية وذلك عندما حاولت السلطة تنفيذ بعض الاصلاحات التي قد تضر بمصالح فئات معينة. على سبيل المثال، فشلت حكومة الدكتور رامي الحمد الله في تطبيق قانون الضمان الاجتماعي بسبب الحراك الاحتجاجي الذي قامت بها فئات وشرائح مجتمعية استهدفها ذلك القانون.

وقد رفضت هذه الفئات القانون بسبب عدم ثقتها بالحكومة. أظهر استطلاع للرأي العام حول أسباب المعارضة للقانون اجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في ذلك الوقت انقسام المعارضين لثلاث فئات: (1) قال حوالي النصف (49%) أنه غير عادل وفيه ظلم للناس، (2) وقالت حوالي الثلث (32%) أنهم لا يثقون بالحكومة ويخشون الفساد والسرقة والواسطة، (3) وقالت نسبة من 14% أن الدخل الحالي ضئيل ولا يحتمل المزيد من الخصومات.

حتى لو تم تعديل القانون، كما طالب البعض، فإن ثقة الجمهور في أن صندوق الضمان أو الحكومة سيدفعان رواتب التقاعد لم تتجاوز 31% فيما قالت نسبة من 56% أنهما لن يدفعا رواتب التقاعد . أشارت استطلاعات الرأي العام إلى انخفاض الثقة بالحكومة الفلسطينية وارتفاع نسبة الاعتقاد بفساد مؤسسات السلطة. قالت في نهاية عام 2023 نسبة من 74٪ أنها لا تثق بالحكومة الفلسطينية أو تثق بها قليلا، فيما قالت نسبة من 22٪ فقط أن لديها ثقة أو ثقة كبيرة بالحكومة.

قبل ذلك بعامين، في الباروميتر السابع، بلغت الثقة بالحكومة 27٪.  وحول موضوع الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية اعتقدت الغالبية العظمى من الفلسطينيين (85٪) بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وذلك إما بنسبة كبيرة (54٪) أو إلى حد متوسط (31٪)، وقالت نسبة من 10٪ إنه موجود ولكن بدرجة ضئيلة، فيما قالت نسبة من 2٪ أنه غير موجود على الإطلاق، واعتقد 12٪ أنه موجود بدرجة ضئيلة أو غير موجود على الإطلاق . ان العمل المحدود في محاربة الفساد فاقم من ازمة انعدام الثقة بين المواطن والسلطة . في ظل استمرار انخفاض الثقة في مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، بما فيها الحكومة، هو مؤشر يُنذر بعدم التفاف الجمهور حول الخطوات الاصلاحية.

التحدي الخارجي:

يشكل الاحتلال الاسرائيلي وضغوط المانحين تحدين اضافيين يقيدان عملية الاصلاح، رغم أن ضغوط المانحين قد تشكل احيانا دافعا للإصلاح. ما زال الاحتلال الإسرائيلي يفرض سيطرته العسكرية والادارية على اغلب مناطق الضفة الغربية، وهي مناطق ج التي تشكل 62% من أراضي السلطة الفلسطينية، ويفصل شطري الوطن في الضفة الغربية وقطاع غزة عن بعضهما البعض، الى جانب تحكمه بالمعابر والحركة التجارية من صادرات وواردات، وبالتالي يقوم بجبي الضرائب ليتم اعاداتها للسلطة الفلسطينية.

ولكنه في السنوات الاخيرة يعمد إلى فرض العقوبات المالية المختلفة على السلطة الفلسطينية مما ادخلها في ازمة مالية متصاعدة أدت إلى اضعاف السلطة وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها. لا تستطيع السلطة الفلسطينية القيام بالكثير من الاصلاحات الاقتصادية المرتبطة بالنظام الضريبي او تعديلها بما يتوافق مع الواقع الفلسطيني بسبب قيود اتفاقية باريس الموقعة بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي التي جعلت من الاقتصاد الفلسطيني اقتصادا تابعا للاقتصاد الإسرائيلي.

كما دأب المانحون خلال السنوات الماضية على مطالبة السلطة الفلسطينية بإجراء الاصلاحات داخل مؤسسات السلطة، وتنوعت هذه الضغوط بين مادية وسياسية. وارتبطت أغلب مطالبات الاصلاح من المانحين بالرغبة من التهرب من الاستحقاقات السياسية في مراحل معينة بدلا من ممارسة الضغوط على اسرائيل للمضي في تنفيذ التزاماتها. كانت بدايات المطالبات الغربية بالإصلاح مع قرب انتهاء المرحلة الانتقالية، واشتدت هذه المطالبات مع الانتفاضة الثانية .

بالرغم من تسييس المانحين لعملية الإصلاح لإرضاء إسرائيل فقد تمكنت ضغوط المانحين أحيانا من فرض أجندة اصلاح حقيقي، خاصة في ظل تناغمها مع المجلس التشريعي والمجتمع المدني، مثل تعديل القانون الاساسي عام 2003. في المقابل، فإن استجابة السلطة الفلسطينية لضغوط الإصلاح الخارجية مقابل اغفالها المطالب الداخلية، يظهرها ضعيفة امام مواطنيها ويساهم في زعزعة الثقة بها وبمؤسساتها.

سبل مواجهة التحديات التي تعيق عملية الاصلاح

بعد مرور حوالي 30 عاما على تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، اصبح من الضرورة مواجهة هذه التحديات وتذليل العقبات امام عملية الاصلاح من اجل بناء مؤسسات قادرة على النهوض بالمجتمع الفلسطيني وتعزيز صموده امام المخططات والاجراءات الاحتلالية في قطاع غزة والضفة الغربية. ومن الضروري القيام بعدد من الخطوات على النحو التالي:-

(١) تجديد شرعية النظام السياسي: ان تجديد الشرعيات يتم من خلال إجراء الانتخابات العامة (التشريعية، والرئاسية)، ولكن بسبب تعذر أجراء الانتخابات نتيجة العدوان على قطاع غزة وما يخلفه هذا العدوان من نتائج مدمرة على السلطة والمواطنين، فمن الضروري اعتماد برنامج عمل وطني عليه اجماع او شبه اجماع من كافة القوى والفصائل الفلسطينية، وخاصة من طرفي الانقسام (فتح وحماس)، وإجراء ما يلزم من تغييرات على الحكومة بناءً على هذا الإجماع. يمكن لرئيس الوزراء محمد مصطفى البحث عن هذا الإجماع وخاصة مع تلك القوى التي عارضت تعيينه، مثل حركة حماس، وذلك بهدف تقليل الشكوك حول استقلاليته ومصداقيته.

إن اجتماعات علنية مع تلك القوى المعارضة، داخل الوطن وخارجه، والتوصل لاتفاقات ومواقف مشتركة، مهما كانت محدودة، قد يساهم في تجديد الشرعيات والبحث في بلورة الإجماع التدريجي بهدف مواجهة التحديين الكبيرين أمام عملية الإصلاح، وهما غياب الارادة السياسية وغياب نزاهة الحكم.

(٢) تمكين الحكومة: يجب الالتزام بما نص عليه القانون الاساسي الذي قدم بشكل واضح تفصيلا لعمل السلطات المختلفة (التنفيذية والتشريعية والقضائية). فقد قدم شرحا تفصيليا لمهام مؤسستي السلطة التنفيذية، رئاسة السلطة الفلسطينية ورئاسة الحكومة ومجلس وزرائها، ولكن الرئاسة صادرت منذ عام ٢٠٠٧ صلاحيات الحكومة التي منحها اياها القانون الاساسي مما أفقد الحكومة فاعليتها وقدرتها على العمل المستقل. فالحكومة الفلسطينية تستمد شرعيتها من الدستور والأغلبية البرلمانية، وليس من رئيس السلطة الذي لا يمتلك الحق الدستوري في تقرير سياساتها.

لقد منح القانون الأساسي المعدل صلاحيات واسعة مستقلة للحكومة ومجلس وزرائها أكبر بكثير من صلاحيات رئاسة السلطة وبلا تدخل من رئيس السلطة في شئونها. للوصول للتمكين المطلوب فإن على رئيس الوزراء أن يبرهن بالأفعال على استقلاليته عن رئيس السلطة وجرأته في تعزيز وتقوية رئاسة ومجلس الوزراء بدون خضوع أو خوف من مؤسسة الرئاسة. عندها قد يتمكن مصطفى من وضع قدمه في الطريق نحو المربع الأول في قيادة عملية الإصلاح وخاصة إن كان قد بدأ فعلا في بلورة إجماع من مختلف القوى حول برنامج حكومته الاصلاحي.

(٣) تشكيل ائتلاف شعبي لدعم عملية الإصلاح: بإمكان حكومة مصطفى، حتى في ظل الظروف الراهنة من ضعف مكانتها عند الجمهور الفلسطيني وقلة توقعاته منها، استخدام الحاضنة الشعبية وكسب ثقتها تدريجيا من خلال تشكيل إتلاف شعبي داعم لسياساتها وبرامجها الإصلاحية، وذلك كما يقترح عزمي الشعيبي مستشار مؤسسة أمان.

لا شك أن عملية الإصلاح ستمس بمصالح فئات كثيرة في المجتمع وفي هذه الحالة تلجأ الحكومة عادة لممثلي الشعب، ولكن في ظل غياب المجلس التشريعي يجب ان تلجأ الحكومة إلى أكبر قاعدة شعبية متاحة في محاولة للتغلب على فقدان الثقة، بحيث تشارك في هذا الائتلاف شخصيات مجتمعية وازنة تمثل مكونات المجتمع المدني وتشكل هيئة عامة من مختلف القطاعات المجتمعية تقوم بتحديد اولويات الإصلاح بناء على تقارير الخبراء عن الامكانيات المتاحة. يمكن اللجوء لاستطلاعات الرأي العام للمساعدة في تحديد الاولويات.

كما ينبغي تشكيل سكرتاريا لهذه الهيئة المقترحة تتشكل من مجموعة من الخبراء في مجالات الإصلاح المختلفة يقومون بعملية التخطيط ووضع التوصيات للحكومة ويراقبون الأداء ويقدمون التقارير للهيئة العامة، وبذلك نكون قد حصلنا على أكبر مشاركة في محاولة للتعويض عن غياب المجلس التشريعي. لتعزيز فرص نجاح هذا الائتلاف ينبغي لرئيس الوزراء شخصيا العمل على بناء الثقة مع المواطنين العاديين وممثليهم المنتخبين حيثما كان ذلك ممكنا وذلك لأن عملية بناء الثقة المجتمعية تحتاج للوثوق في صانع القرار وذلك إضافة لإشراك المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني في عملية صنع السياسات. لكسب المصداقية علي رئيس الوزراء اللجوء لاتخاذ خطوات ملموسة وجريئة وشفافة في مكافحة الفساد حتى لو طال ذلك كبار المسؤولين السابقين والحاليين.

(٤) اعطاء دور أكبر للهيئات الرقابية: لمواجهة الخطر المتمثل في غياب نزاهة الحكم تحتاج الحكومة لمساعدة الهيئات الرقابية الفلسطيني، الرسمية منها والشعبي، مثل ديوان الرقابة المالية والإداري والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان وائتلاف أمان، والطلب منها تقديم تقارير دورية للحكومة والعمل على الالتزام بتوصياته وعرض أية مشروعات للقوانين عليه قبل مناقشتها، وان تتبع الحكومة في كل ذلك اجراءات أكثر شفافية من تلك التي اتبعتها الحكومات السابقة.

(٥) اتباع سياسات مالية أكثر فاعلية: في الجانب المالي، على الحكومة العمل على صعيدين، الاول مواصلة العمل لتوفير الاموال من خلال الدعم الخارجي ومواصلة تحسين الاداء في تحصيل الضرائب، وهو الشق الأكثر صعوبة، والثاني هو اتباع اجراءات تهدف لتقليل النفقات الحكومية وهل الأقل صعوبة. مطلوب من الحكومة اجراءات وممارسات أكثر شفافية خاصة فيما يتعلق بالمال العام، فلا يعقل ان لا ينشر قانون الموازنة العامة بالتفصيل كما ينص القانون، علما انه في السنوات الاربع الاخيرة لم ينشر قانون الموازنة العامة ولم يتم وضعه على الموقع الالكتروني لوزارة المالية.

(٦) تشكيل ائتلاف اقليمي ودولي لمواجهة ضغوط الاحتلال: يمكن لحكومة مصطفى بعد بناء الإجماع بين القوى والأحزاب، وبعد إثبات استقلاليته، وبعد بناء وتفعيل الحاضنة الشعبية استغلال التأييد العالمي الراهن للقضية الفلسطينية للعمل على تشكيل ائتلاف مع الدول المجاورة والصديقة، وحتى غير الصديقة، ليس فقط لوقف الحرب على غزة وتقديم العون لها، بل أيضا لمواجهة الضغوط التي تفرضها دولة الاحتلال على السلطة في الضفة الغربية، وذلك من خلال استخدام أعضاء هذا الائتلاف بشكل منفرد أو من خلال الهيئات الدولية للضغط على إسرائيل، بما في ذلك الضغط تجاه محاسبتها بفرض العقوبات عليها.

الخلاصة

هل يمكن لحكومة محمد مصطفى أن تنجح في مواجهة تحديات الإصلاح التي تناولتها هذه الورقة؟ لا تمتلك هذه الحكومة قاعدة شعبية مساندة، ولا ثقة جماهيرية ذات مغزى، ولا تمتلك ثقة برلمانية، بل ولا تمتلك تفويضا فصائليا مهما قل وزنه. بل تظهر الوقائع على الأرض حتى اللحظة ان هذه الحكومة لا تمتلك الرؤية ولا الجرأة ولا الإمكانيات لمواجهة هذه التحديات.

بدون هذه الميزات والسمات لن تستطيع حكومة مصطفى مواجهة التحديات المختلفة وفي مقدمتها غياب الارادة السياسية للإصلاح. ما زالت الحكومة تعمل وكأنها تستمد صلاحياتها وشرعيتها من الرئيس، الذي انتهت شرعيته الانتخابية قبل أربعة عشرة عاما، وليس من الدستور كما ينبغي، ولا يبدو في الأفق بوادر تغيير جدي لدى رئيس السلطة ولا لدى رئيس الحكومة الجديد إلا في إطار شكلي ومراوغ. لم يصدر عن رئيس الحكومة أو وزرائه ما يشير لأية رغبة في تحدي من عينوهم في مناصبهم حتى ولو كان ذلك لإظهار استقلاليتهم أو لتأكيد ولائهم للقانون الأساس الذي أقسموا على الحفاظ عليه.

مع ذلك، لا ينبغي الاستسلام لليأس. عرضت هذه الورقة مجموعة من التوصيات القادرة على فتح نافذة من الأمل بالقيام بالإصلاحات المطلوبة. إن نجاحا، حتى ولو كان محدودا، قادر على فتح الباب أمام مهام أكبر وأكثر حيوية تتمثل في مد اليد بالمعونة لأهلنا في قطاع غزة، وإعادة توحيد مؤسسات الدولة في الضفة والقطاع على أسس مهنية، والتحضير للانتخابات العامة، وفتح الطريق لمستقبل سياسي جامع للشعب الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، حكومة كهذه لا تحتاج فقط ممارسة كامل صلاحياتها فقط أو حرية اختيار منهج العمل كما تحتاج الدعم والمساندة بذات القدر من المساءلة والرقابة على أعمالها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى