في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الجاري، تحل الذكرى الثالثة للحرب الروسية الأوكرانية، التي تُعدّ معركة بين روسيا والولايات المتحدة على رؤى متنافسة للنظام العالمي، وفي حين كانت أوروبا تتداول المباحثات بشأن مستقبل الحرب، وكانت الولايات المتحدة تنخرط مع روسيا في السعودية فيما يخص القضايا الخلافية بين القوتين العظميين، كانت تركيا تناور لإعادة تشكيل المسرح الإستراتيجي، فمن خلال استضافة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أنقرة، أرسل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إشارة واضحة مفادها أن تركيا تظل لاعبًا رئيسًا في تشكيل مستقبل أوكرانيا؛ إذ تتطلع تركيا -بهدوء- إلى الاستعداد لسيناريو ما بعد الصراع، بما في ذلك الإشراف على وقف إطلاق النار المحتمل.
موقع تركيا على خريطة الحرب الروسية الأوكرانية
لقد كانت تركيا تسير على خط رفيع ودقيق في حرب روسيا على أوكرانيا؛ فمن جانب دعمت أنقرة سلامة أراضي أوكرانيا وسيادتها، كما قدمت المعدات العسكرية الأساسية، ومنها طائرات بيرقدار بدون طيار، ومن جانب آخر حافظت تركيا على علاقات اقتصادية قوية مع روسيا؛ ما مكن موسكو من الحصول على وصول حاسم إلى التجارة العالمية والأسواق، كما أبقت أنقرة مجالها الجوي مفتوحًا أمام روسيا، ليكون منفذًا حاسمًا، وعززت تعاونها مع موسكو في مجال الطاقة من خلال الاستمرار في نقل الغاز الروسي، وهو أمر حيوي للاقتصاد الروسي، وحثت الدول الغربية على تجنب الإجراءات التي قد تؤدي إلى توسيع الصراع.
ومنذ بداية الحرب، كانت هناك محاولات محدودة لتوسط أنقرة في الصراع، وعلى الرغم من مواجهة تركيا انتقادات لإستراتيجيتها المزدوجة، فقد سعت إلى اختبار قدراتها الدبلوماسية، واستضافت اجتماعًا مهمًّا في أنطاليا في مارس (آذار) 2022، جمع بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا لإجراء محادثات ثنائية. ومع أن هذا الاجتماع كان طريقًا مسدودًا بلا أي آفاق، فإنه كان أول مشاركة رفيعة المستوى بين البلدين منذ بدء الصراع؛ مما سلط الضوء على دور تركيا بوصفها وسيطًا مبكرًا في الحرب.
بينما كانت مبادرة حبوب البحر الأسود محاولة أكثر تأثيرًا، لمواجهة المخاوف المرتبطة بتداعيات الحرب على الأمن الغذائي العالمي، وفي 22 يوليو (تموز) 2022، توسطت تركيا والأمم المتحدة في اتفاق بين الأطراف المتحاربة لإنشاء ممر شحن للحبوب الأوكرانية، كان بمنزلة شريان حياة لأكثر من 349 مليون شخص؛ ومن ثم كان هذا الاتفاق حاسمًا في تخفيف أزمة الغذاء، وتعزيز اقتصاد أوكرانيا خلال فترة مضطربة.
استكمالًا لدور أنقرة بوصفها وسيطًا دبلوماسيًّا، استضافت أنقرة رؤساء المخابرات الأمريكية والروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 لمناقشة التهديدات النووية، ونجحت الجهود الدبلوماسية التركية في صفقات تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا. ونظرًا إلى مكانة أنقرة الإيجابية في كييف وموسكو، وطموحها إلى تيسير الحوار، واحتواء الحرب، وتهدئة التوترات من أجل التوصل إلى حل سريع، فإن تركيا في وضع متميز يمكّنها من توظيف قنواتها الدبلوماسية مع ظهور مقترحات سلام جديدة برعاية أمريكية.
خلال حملته لإعادة انتخابه، تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بوقف الحرب في غضون 24 ساعة، وهو الجدول الزمني الذي مدده لاحقًا إلى عدة أشهر، وفي الوقت نفسه، تحدث مبعوثه الخاص إلى روسيا وأوكرانيا، الفريق كيث كيلوج، عن تحقيق السلام في غضون 100 يوم، إذ ظهر نحو 25 مقترحًا حتى الآن، لكن الجداول الزمنية لهذه المقترحات تتغير باستمرار، وقد تم تداول تفاصيل مختلفة غير مؤكدة عن خطة ترمب في وسائل الإعلام منذ بداية العام؛ ومن ثم لم تضف الرسائل غير المتماسكة من إدارة الرئيس ترامب إلا مزيدًا من الارتباك.
وفي السابع عشر من فبراير (شباط) الجاري، جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زعماء الدنمارك وإيطاليا وألمانيا وهولندا وبولندا وإسبانيا والمملكة المتحدة والمفوضية الأوروبية ومنظمة حلف شمال الأطلسي لتأكيد دعمهم لأوكرانيا، لكن ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو (تركيا) كانت غائبة. بالتزامن مع هذا انطلقت محادثات رفيعة المستوى بين رئيسي الخارجية الروسي والأمريكي في الرياض للتفاهم بشأن تسوية الحرب الروسية الأوكرانية.
مكاسب تركيا من الوساطة بين روسيا وأوكرانيا
نجحت تركيا في نسج علاقة فريدة مع كل من روسيا وأوكرانيا؛ فهي عضو في حلف الناتو، وكانت من بين الدول القليلة التي زودت أوكرانيا بالمعدات العسكرية في المراحل الأولى من الحرب، وعززت أنقرة التعاون الدفاعي العميق على المستوى الإستراتيجي مع كييف بما يتجاوز بيع الطائرات بدون طيار. وفي المقابل، تربط تركيا علاقات وثيقة مع موسكو؛ إذ يتمتع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعلاقة شخصية ودية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وامتنعت تركيا عن الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، فضلًا عن ترسيخ تعاونها الإستراتيجي في عدة مجالات، وهو ما أفضى إلى حفاظ أنقرة على علاقات جيدة مع كل موسكو وكييف في آن واحد.
ومن المنظور التركي، فإن أنقرة تهدف من خلال مساعيها للوساطة في حل الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى إحراز عدة مكتسبات، من أبرزها: خفض خطر امتداد الصراع إلى حوض البحر الأسود، وهو ما سيوفر لأنقرة بعض الراحة التي تحتاج إليها لمواجهة المخاوف الأمنية على حدودها الشمالية، كما أن وقف إطلاق النار قد يسمح للمؤسسات الأمنية التركية بالتفرغ لمجموعة التحديات المرتبطة بالتطورات في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
بالإضافة إلى هذا، فإن تركيا لا ترى كييف صراعًا معزولًا عن أمنها القومي؛ بل إنها جزء من منافسة جيوسياسية أوسع مع موسكو. لقد اشتبكت تركيا وروسيا في جبهات متعددة، من ليبيا إلى سوريا إلى القوقاز، والآن يمتد التنافس بين الدولتين إلى إفريقيا، إذ تسعى روسيا إلى ترسيخ بصمتها شبه العسكرية مع توسيع تركيا تدخلها السياسي والعسكري والاقتصادي في القارة، إذ تشارك أنقرة في شراكات بين الدول، وعقود دفاع، وصفقات بنية تحتية في منطقة الساحل، وتقدّم ما لا تستطيع مجموعة فاغنر تقديمه، وفي البحر الأحمر، تعمل أنقرة على تعميق وجودها في السودان، في حين تتطلع روسيا إلى إنشاء قاعدة بحرية في البلاد.
كما تطمح تركيا من وساطتها في الصراع بين موسكو وكييف إلى أداء دور رئيس في إعادة إعمار أوكرانيا بعد الحرب، بالإضافة إلى مطامعها بشأن إعادة بناء قاعدتها الصناعية الدفاعية، ومن شأن هذا النهج أن يحقق رغبات تركيا في أن تكون قوة إقليمية رئيسة، وقد يوظف أردوغان رغبة ترمب في إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا في الحصول على توافق على مستقبل سوريا، والدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية في المقابل.
سيناريوهات الدور التركي في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا
إن أي اتفاق سلام في أوكرانيا سوف يكون معقدًا بفعل العوامل الإقليمية والدولية المرتبطة بالصراع؛ لذا من المرجح أن يتضمن عناصر متشابكة تهدف إلى ضمان استدامته، وقد يكون أحد هذه العناصر وجودًا أكثر حيادية من قوة حفظ السلام، في شكل بعثة مراقبة تركز -على نحو خاص- على تعزيز وقف إطلاق النار؛ ومن ثم فإذا اتفقت روسيا وأوكرانيا على آلية لإنفاذ وقف إطلاق النار ومراقبته، وإذا تطلب الأمر وجود شكل من أشكال الوجود الدولي، فستسنح الفرصة أمام تركيا لاستعراض نفوذها، وبوصفها دولة حافظت على علاقة إيجابية نسبيًّا مع كلا الجانبين طوال الصراع، فقد تتولى تركيا قيادة هذه المبادرة التي تحظى بموافقة أمريكية، وستنظر أنقرة أيضًا إلى هذا بوصفه مجالًا لإظهار إسهاماتها الحيوية في البنية الأمنية الأوروبية، ومحاولة الاستفادة من هذا التصور في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، من المرجح أن تدعم تركيا -بقوة- وقف إطلاق النار، وتبدي استعدادها للاضطلاع بدور مهم في تنفيذه من خلال بعثة مراقبة، شريطة ألا تنطوي هذه البعثة على مهام إنفاذ السلام؛ لكون هذا التشكيل يتماشى مع رغبة تركيا في الحفاظ على موقف غير مباشر في مواجهة روسيا، وفي الوقت نفسه، يمنع خطر الانجرار إلى صراع عسكري مباشر مع جارتها الشمالية. وفي المقابل، إذا كان وقف إطلاق النار مصحوبًا بقوات عسكرية من جانب عدة دول غربية، استنادًا إلى موافقة أوكرانيا فقط، ويهدف صراحة إلى صد أي توغل مستقبلي محتمل من جانب روسيا، فإن فرص مشاركة تركيا في هذا المخطط غير واردة.
وعلى الرغم من دوافع الطرح السابق، فإن كثيرًا من التحديات قد تعوق قدرة تركيا على الانخراط في تسوية الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا؛ أولها كون تركيا طرفًا مركزيًّا في الصراع يتضارب مع ادعاءات أنقرة الحياد، فبينما تعد تركيا جزءًا من بنية أمن البحر الأسود، فإنها تعمل أيضًا على موازنة روسيا في مناطق جيوسياسية، خاصةً في سوريا وليبيا، ثانيها: قد تعارض روسيا دور تركيا في الوساطة بسبب دعمها العسكري لأوكرانيا، وبالمثل، لا تزال تركيا ترى شبه جزيرة القرم ولوغانسك ودونيتسك أراضي تابعة لأوكرانيا، وهو ما ترفضه موسكو بشدة، وثالث تلك التحديات يتمثل في أن تركيا عضو في حلف الناتو، الذي تعدّه روسيا خصمًا رئيسًا. وأخيرًا، قد يجد الطموح التركي حذرًا بسبب عدم اليقين بشأن موقف تركيا المستقبلي داخل المواءمات الغربية بشأن قضايا المنطقة.
الخاتمة
ترتهن التسوية الدبلوماسية بشأن مستقبل أوكرانيا بديناميكيات الأمن في البحر الأسود، والأدوار التي تؤديها القوى الفاعلة في إطار الأمن الأوسع في أوروبا، وسوف يتطلب تحقيق هذا تنسيقًا للسياسة الخارجية والأمنية بين تركيا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، وهذا التعاون ضروري ليس فقط لضمان السلام المستدام في أوكرانيا؛ بل أيضًا لموازنة نفوذ روسيا -على نحو فعّال- في الجوار المشترك بين تركيا وأوروبا، وفي ظل غموض ملامح الإطار الإستراتيجي بين الغرب وتركيا فيما يتصل بدور الأخيرة في البنية الأمنية الغربية، سوف يكون إسهام تركيا في المفاوضات محدودًا إذا لم يُعطِ ترمب أنقرة الضوء الأخضر لتشارك في الخطة التي سيقدمها إلى موسكو وكييف.