قال المرشد الأعلى الإيراني في كلمة نشرها موقعه الرسمي، (يجب أن لا يكون هناك شك أن ما حدث في سوريا نتيجة لمخطط أمريكي ـ صهيوني)، وأضاف (نعم دولة مجاورة لسوريا قامت بوضوح بدور في هذا الأمر، ومستمرة في القيام بذلك ـ يمكن للجميع رؤية ذلك ولكن المتآمر الرئيسي ومركز القيادة يكمن في أمريكا والنظام الصهيوني). لكن قبل ذلك وبعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد قالت إيران، إنها تتوقع استمرار العلاقات مع دمشق بناء على نهج بعيد النظر وحكيم للبلدين. فهل كلام المرشد صُراخ متوجّع من فداحة الخسارة؟
يبدو أنه لم يكن أي أحد في طهران يتوقع سقوط بشار الأسد، على الرغم من أنه ومنذ الصيف الماضي كان العديد من الصحف الغربية تكتب، بأن المعارضة تتجه إلى القيام بعمليات عسكرية، تستهدف إسقاط النظام القائم في دمشق.
ويمكن أن يكون صحيحا ما يقوله المرشد عن تحذيرات إيرانية لبشار الأسد بوجود مؤامرة تُحاك لإسقاطه، لكن ليس صحيحا القول بأنه تجاهل تلك التحذيرات، بل الصحيح هو أنه كان مطمئنا الى أن وجود الفاعلين الروسي والإيراني الى جنبه هو ما سيجنبه السقوط، فهما من أعطاه عمرا إضافيا في السلطة منذ عام 2011 على أقل تقدير إلى يوم سقوطه. لكن جهله المطبق جعله لا يرى أن الحرب في أوكرانيا قد احتكرت القوة الروسية، وأن الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله، أفقدت إيران القدرة على التنفس خارج خريطتها الجغرافية. وهنا حصل الاختراق الذي بتر الذراع الآخر لطهران، ففي الوقت نفسه الذي تم فيه وقف إطلاق النار في لبنان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، بدأت التطورات الميدانية في سوريا في التسارع، حيث سيطرت المعارضة على مناطق وبلدات عدة في ريف حلب في غضون ساعات قليلة. في هذه اللحظة كان الجيش السوري لا يزال يقاتل، وروسيا وإيران موجودتان في الميدان أيضا، لكن روسيا شعرت بأن الجيش السوري ليس على ما يُرام، وأن عملياتها الجوية تحتاج إلى قوات تمسك الأرض لكنها غير موجودة، ما اضطرها في اليوم التالي إلى الطلب من الحكومة السورية بالحفاظ على الجبهة والقتال بصورة أكبر، من أجل إعادة السيطرة على المدن والبلدات التي سقطت. لكن المفاجأة جاءت بدخول قوات المعارضة إلى حلب بسهولة فائقة.
وعلى الرغم من أن بشار الأسد ما زال في عنجهيته ويقول إن ما يسميه الإرهاب يجب التعامل معه بالقوة، لكن كلا من موسكو وطهران أدركتا المأزق الخطير الدائر في الميدان، فلم يجدوا أمامهم سوى التوسل بالطريق السياسي، علّه ينقذ حليفهم وينقذ سمعتهم أيضا، وقد بادر الطرفان في محاولة للحديث مع تركيا من أجل التوصل إلى حل سياسي، على اعتبار أنها هي الداعم الرئيسي للمعارضة السورية. وطرحت طهران مبادرة اجتماع، لكن بدا واضحا الاختلاف بين الأطراف المجتمعة على الوصول إلى آلية مناسبة للحل، ما اضطر بوتين إلى الاتصال هاتفيا بالرئيس التركي أردوغان، في محاولة لإيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة في إطار أستانا، لكن يبدو أن أنقرة رأت بشكل واضح عدم وجود إرادة للقتال بالنسبة لقوات النظام السوري، في حين أن المعارضة حققت مكاسب كبيرة على الأرض، ما جعل البحث عن مخرج دبلوماسي للأزمة لا معنى له في ظل نجاح الميدان. وهنا تغيرت نبرة التصريحات لكل الأطراف. فطهران قالت إننا مستعدون لإرسال قوات إلى سوريا في حال طلبت منا ذلك الدولة السورية. وتركيا بررت موقفها بالقول إننا اقترحنا على بشار الأسد اللقاء من أجل وضع حد للأزمة السورية وتطبيع العلاقات، لكنه رفض. وهنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحا وهو هل تخلت طهران عن عاملها في دمشق بشار الأسد؟
إقرأ أيضا : تركيا وسوريا الجديدة.. مكاسب كبيرة وتحديات مقلقة
إن الضربات القاسية التي تلقتها إيران مباشرة وقطع ذراعها في لبنان، كانت هي الكابح لدورها في الحفاظ على بشار الأسد. كما أن خطأها الاستراتيجي كان هو تعاملها مع كل الوضع الجديد الناشئ بآليات قديمة. فمنذ عام 2003 عندما حصل غزو العراق إلى عام 2023، كانت طهران تتعامل مع الولايات المتحدة على طريقة المُساكنة. بمعنى أنهم يختلفون في أكثر من مكان، لكنهم يسيرون على حافة الهاوية وصولا إلى اتفاق يحقق مصلحة كل طرف. وبقيت طهران تعتمد هذه المقاربة حتى واقعة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث كان واضحا أن هناك تفاهم إيراني أمريكي لضبط الوضع في المنطقة وإبعادها عن الوصول إلى حالة الانفجار الكبير. الأمريكيون يضبطون السلوك الإسرائيلي، والإيرانيون يضبطون سلوك أذرعهم. لكن ضرب إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق كان إيذانا بأن الولايات المتحدة قد تخلت عن هذا الاتفاق مع طهران، لذلك صرّح عبداللهيان وزير الخارجية الإيراني السابق، بأن مسؤولية ما حدث تقع على الولايات المتحدة، وهو دليل على وجود ذلك الاتفاق بين الطرفين، ثم جاء اغتيال إسماعيل هنية ليتبعه تصعيد إسرائيلي غير مسبوق ضد إيران وأعوانها، ومع ذلك بقيت طهران تتعامل بالآليات القديمة، وما يسمى سياسة الصبر الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، على الرغم من دخول المنطقة مرحلة جديدة، لكن عند تفجيرات وسائل الاتصال المستخدمة من قبل ذراعها حزب الله، ثم استهداف حسن نصرالله وقيادات الصف الأول والثاني في الحزب، والتهديد باغتيال المرشد وتغيير النظام، حينها أدركت طهران عطب سياستها وفشلها في فهم طبيعة المرحلة الجديدة، وهو إدراك جاء متأخرا كثيرا. وهنا حاولت العودة باختيار أساليب ووسائل جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة، لكنها وجدت نفسها قد فقدت المبادرة وتعرضت هي ومحورها إلى ضربات قاصمة، تحتاج إلى وقت طويل للتعافي منها والعودة مرة أخرى الى ممارسة دورها المعروف في المنطقة.
إن الحديث الإيراني عن ما يسمونه الهوية الإرهابية للحكم الجديد في سوريا، إنما هو قفز فاضح على حقيقة دورها في صنع ميليشيات إرهابية جابت المنطقة وارتكبت جرائم فادحة في العراق ولبنان واليمن وسوريا. ألم يكن ذراعها حزب الله مُصنّفا على قائمة الإرهاب في العديد من الدول؟ أليست ميليشيات الزينبيون والفاطميون وميليشيات عراقية ميليشيات إرهابية أيضا؟ من الذي قام بحصار داريا والمعظمية السوريتين؟ من الذي قتل النساء والأطفال في القُصير ورفع الشعارات الطائفية فيها؟ أليست هي إيران وأذرعها الإرهابية؟
المشكلة أن إيران هي من صنعت الميليشيات الإرهابية في المنطقة واستخدمتها كوسائل في صنع سياساتها الخارجية، وكانت تظن أن سياسة المُساكنة مع الولايات المتحدة سوف تستمر، حتى تحقيق كل مصالحها في السيطرة على كل دول الجوار، واليوم انتهى ذلك التعايش وبُتر ذراعها الآخر والأهم في دمشق.