أوروبا

هل تصل «الفوضى الهلاكة» إلى أوروبا؟

هذا لا يعني أن الغالبية العظمى من الأوروبيين قد ضاقوا ذرعاً بموجات اللاجئين والأجانب فحسب، بل باتوا ينشدون الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني بالضرورة تفكك الاتحاد فيما لو استمرت موجة صعود اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع

هل سمعتم في التاريخ الأوروبي الحديث منذ الحرب العالمية الثانية زعيماً أوروبياً يحذر من اندلاع حرب أهلية في بلاده؟

قد يخطر اسم يوغسلافيا السابقة على بالكم، لكن يوغسلافيا كانت تابعة لأوروبا الشرقية المنضوية وقتها تحت لواء حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي، الذي هو نفسه انهار فيما بعد وتفكك.

أما الحركات الانفصالية في إسبانيا وإيرلندا فهذا موضوع آخر، وأسبابه مختلفة تماماً عما ذكره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام، فقد حذر ولأول مرة في التاريخ الفرنسي الحديث من إمكانية سقوط فرنسا في براثن الحرب الأهلية. وقال حرفياً إن برنامجي اليمين واليسار المتطرفين يؤديان فعلياً إلى «حرب أهلية».

وأضاف بأن «الحلول التي قدمها اليمين المتطرف تصنف الناس من حيث دينهم أو أصولهم، وهذا هو السبب في أنها تؤدي إلى الفرقة وإلى الحرب الأهلية». ونحن هنا لا نتحدث عن دولة أوروبية هامشية، بل عن ركن أساسي في الاتحاد الأوروبي. إنها فرنسا وما أدراك ما فرنسا. هل كان تحذير الرئيس الفرنسي يا ترى مجرد مناورة سياسية ضد خصومه، أم إن السيل قد بلغ الزبى، وإن أوروبا كلها باتت على كف عفريت بسبب صعود أسهم الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات؟ الواضح أن اليمين كما أظهرت نتائج الانتخابات في كل الدول الأوروبية لم يتقدم فقط في فرنسا، بل في معظم الدول الأوربية، بما فيها ألمانيا حاملة مشعل الاتحاد الأوروبي.

وهذا لا يعني أن الغالبية العظمى من الأوروبيين قد ضاقوا ذرعاً بموجات اللاجئين والأجانب فحسب، بل باتوا ينشدون الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني بالضرورة تفكك الاتحاد فيما لو استمرت موجة صعود اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع. ربما لأول مرة منذ عقود نسمع أصواتاً داخل ألمانيا تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهذه نغمة غير معهودة مطلقاً في الإعلام الألماني، خاصة وأن ألمانيا هي التي تحمي الاتحاد من الانهيار وذلك من خلال دعم الدول المتدهورة اقتصادياً كاليونان وغيرها. ومعلوم أن ألمانيا اشترت اليونان تقريباً وباتت المتحكم الرئيسي بسياساتها وحكوماتها. لكن الأحزاب المتطرفة فيها بدأت اليوم تطالب بتفكيك الاتحاد والانطواء على الذات.

اليمين كما أظهرت نتائج الانتخابات في كل الدول الأوروبية لم يتقدم فقط في فرنسا، بل في معظم الدول الأوربية، بما فيها ألمانيا حاملة مشعل الاتحاد الأوروبي

والغريب في الأمر أن بعض الأحزاب اليمينية صارت تحظى بأصوات نسبة لا بأس بها من الناخبين الألمان والفرنسيين وغيرهم. وكلها تعارض سياسات الأحزاب الحاكمة ومؤيديها، وهذا يعني بالضرورة أن الغالبية العظمى من الأوروبيين باتوا منقسمين على أنفسهم بشكل خطير ربما لأول مرة في التاريخ الحديث، وما حذر منه إيمانويل ماكرون في فرنسا قد يتردد صداه عاجلاً أو آجلاً في بقية دول الاتحاد الأوروبي، وهذا قد يزيد من الشروخ المتصاعدة داخل الجسم الأوروبي بمستوياته السياسية والشعبية.

ما الذي أدى يا ترى إلى هذه المخاطر المحدقة بالاتحاد الأوروبي وبشعوبه؟ لماذا بدأ التفكك يضرب مفاصل الدول الأوروبية؟ هل وصلت أنظمة التحكم الإعلامي والسياسي والثقافي والاجتماعي والديني إلى نهايتها؟ لماذا بدأت القواعد الشعبية تخرج عن السيطرة بالرغم من أن أنظمة التحكم والسيطرة الأوروبية لا مثيل لها عبر التاريخ في تطويع الشعوب وإخضاعها وترويضها، مع ذلك نجد اليوم قطاعات كبيرة من الشارع الأوروبي وقد بدأت تخرج عن القطيع. هل أفلست الأنظمة الأوروبية يا ترى، ولم تعد قادرة على تجميع شعوبها تحت مظلة واحدة؟ هل تبنت سياسات خاطئة ستؤدي بالضرورة إلى اضطرابات داخلية لا تحمد عقباها؟ وما هو الدور الخارجي في إذكاء نار التفكك والتصدع داخل المجتمعات الأوروبية؟

لقد وجه الغرب مرات عديدة أصابع الاتهام إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحملته مسؤولية دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في عموم أوروبا؟ لكن هل يا ترى أن روسيا لوحدها تتحمل مسؤولية صعود نجم الأحزاب اليمينية، أم إن أمريكا نفسها لعبت ومازالت تلعب دوراً تخريبياً داخل القارة العجوز؟ ألم يصبح الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب والمرشح الحالي للرئاسة الأمريكية مثلاً يحتذى بالنسبة للعديد من الأحزاب والشخصيات السياسية الأوروبية؟ هل تعمل أمريكا على نشر الفوضى الهلاكة حتى داخل الديار الأوروبية نفسها؟ من الذي دعم مظاهرات «الستر الصفراء» في فرنسا لفترة طويلة؟ هل يمكن تبرئة الأمريكيين أصلاً من إشعال نار الحرب في أوكرانيا وأثرها المدمر على المجتمعات الأوروبية على كل الأصعدة؟

أليس من الغريب والملفت معاً أن أوروبا هي التي خاضت واحدة من أكبر الحروب في التاريخ للقضاء على الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية؟ فما الذي دهاها اليوم يا ترى لأن تنفخ من جديد في نار الفاشية والتطرف وتدفع بأحزاب متطرفة مشابهة إلى سدة الحكم في أكثر من بلد أوروبي؟ هل موجة التطرف التي بدأت تطل برأسها في عموم أوروبا ظاهرة عابرة يا ترى، أم إنها خطيرة جداً، ولو لم تكن بتلك الخطورة التاريخية، لما خرج الرئيس الفرنسي ليحذر الفرنسيين بلغة واضحة من أن بلدهم معرض لفوضى قاتلة ستكون أول تجلياتها الحرب الأهلية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى