هل تصبح جورجيا الدولة التالية تحت نفوذ روسيا؟
الانتخابات المقبلة في جورجيا تعتبر نقطة مفصلية في مستقبل البلاد بسبب النفوذ المتزايد للأوليغارشي بيدزينا إيفانيشفيلي القريب من فلاديمير بوتين، واحتمال أن يؤدي فوز حزبه إلى عكس مسار التقارب مع أوروبا والـ "ناتو"
تُعَد لوحة “دورا مار والهر” Dora Maar au chat من أروع أعمال الفنان التشكيلي الإسباني بابلو بيكاسو التي تصور المرأة التي ألهمته وكانت عشيقته لفترة طويلة، وعندما أعلنت دار “سوثيبي” Sotheby’s عن طرحها للبيع في مزاد علني في الثالث من مايو (أيار) عام 2006، طغت أجواء من الترقب والتوتر على دار المزادات في مدينة نيويورك.
في آخر القاعة كان يجلس رجل جورجي قصير القامة ونحيف ومتواضع، لم تميزه سوى خصلة رمادية في شعره، ولم يكن أحد من العاملين قد انتبه إلى وجوده إلى أن بدأت المزايدة وتغير كل شيء.
وسرعان ما أخذ الجورجي الغامض يلوح بمجداف المزايدة بصورة منتظمة ويقدم عروضاً تفوق عروض منافسيه، حتى استطاع أن يظفر باللوحة الشهيرة والمؤثرة لقاء مبلغ كبير بلغ 52 مليون جنيه إسترليني (67.6 مليون دولار أميركي)، وهو ما كان في ذلك الوقت ثاني أعلى سعر يُطرح لقاء لوحة في مزاد، وضعف القيمة التقديرية التي وُضعت لها قبل البيع.
في اللحظة التي هوت فيه المطرقة لتعلن انتهاء المزاد، أحاط موظفو “سوثيبي” بالجورجي المجهول واصطحبوه بسرعة إلى غرفة خاصة بعيداً من أعين المراسلين المتطفلين، وجرى الكشف لاحقاً عن هوية هذا المشتري الغامض ليتبين أنه بيدزينا إيفانيشفيلي، رجل الأعمال الأوليغارشي الذي يبلغ من العمر 50 عاماً والذي تُقدر ثروته بـ 6.4 مليار دولار (4.9 مليار جنيه إسترليني)، مما يجعله أغنى شخص في جورجيا، إذ تعادل ثروته الصافية ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
اقرأ أيضا.. «بريكس» قاطرة للنمو العالمي
اليوم بات إيفانيشفيلي الشخصية الأكثر نفوذاً في بلاده نتيجة الدور الذي اضطلع به كمؤسس وراع لـ “حزب الحلم الجورجي” Georgian Dream Party الحاكم، وعلى رغم توليه منصب رئيس الوزراء ما بين عامي 2012 و2013 فإنه الآن يستغل ثروته ونفوذه لحكم البلاد من الظل، وهو يقيم في مجمع مدهش يمتد على مساحة 10 آلاف متر مربع، وقد بُني على شكل أسطوانات زجاجية وأنابيب معدنية متداخلة على حافة جرف.
هذا المجمع الذي تبلغ كلفته 50 مليون دولار والذي صُمم على شكل كهف يُطل على العاصمة الجورجية تبيليسي، ومنه يصدر الأوليغارشي المنعزل المراسيم ويطلق الخطابات من خلف منصة واقية من الرصاص معتقداً أنه هدف محتمل للاغتيال، وبسبب رهاب الجراثيم فإنه نادراً ما يلمس الآخرين ويضع قناعاً عندما يغامر بالخروج من مقره.
إلا أن الاستبداد المتنامي الذي يتسم به إيفانيشفيلي قد يؤدي إلى العودة بالدولة المطلة على البحر الأسود والمؤيدة لأوروبا لحقبة القمع في مرحلة الاتحاد السوفياتي السابق، مما قد يسمح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسيع نفوذه في البلاد.
في صميم حكم إيفانيشفيلي الاستبدادي يكمن إصراره على قانون يلزم المنظمات التي تتلقى تمويلاً أجنبياً، بما فيها الوسائل الإعلامية والمؤسسات غير الحكومية المناهضة للفساد، بتسجيل نفسها كعملاء لدولة أجنبية، وهذا الأمر أثار غضباً شعبياً واحتجاجات واسعة النطاق في شوارع تبيليسي.
ويرى مدير دراسات روسيا و أوراسيا في معهد “تشاتام هاوس” Chatham House للأبحاث، جيمس نيكسي، أن “سعي الحكومة الجورجية إلى فرض هذا الأمر يتعارض تماماً مع إرادة الغالبية العظمى من السكان في البلاد، ويرقى فعلياً إلى مستوى انقلاب على إرادة الشعب”.
إن ما يلفت الانتباه بصورة خاصة في شأن قانون العملاء الأجانب هو تشابهه الكبير مع تشريع روسي يستخدم لقمع المعارضة السياسية، وقد يؤدي هذا الارتباط بنهج فلاديمير بوتين إلى تحول جورجيا إلى دولة خاضعة لنفوذ موسكو ومصالحها.
وفي هذا الإطار ترى زعيمة حزب المعارضة الرئيس “الحركة الوطنية المتحدة” United National Movement تينا بوكوتشافا [نشأ من الحركات السياسية التي قامت بـ “ثورة الورود” عام 2003 وأطاحت الرئيس إدوارد شيفارنادزه وأوصلت قائده ميخائيل ساكاشفيلي إلى الرئاسة] أنه “بغض النظر عما إذا كان هذا المنحى مستوحى من الكرملين أو بتوجيه مباشر منه، فإن النتيجة واحدة وهي حرمان جورجيا من مستقبلها الأوروبي وتمكين بوتين من تحقيق أهدافه الإستراتيجية، فزعيم الكرملين يسعى إلى تحويل جورجيا إلى دولة فاشلة تخضع لسيطرته، إما من خلال حكومة دمية أو من خلال تقويض طموحاتها الأوروبية”.
يشار إلى أن “المفوضية الأوروبية” كانت أوصت رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 بمنح جورجيا وضع المرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي، لكن قانون النفوذ الأجنبي جاء ليقضي على آمال البلاد في الانضمام إلى الكتلة.
ويتجسد شبح النفوذ الروسي بصورة واضحة في شخصية بيدزينا إيفانيشفيلي، فقد ولد هذا الرجل عام 1956 في قرية فقيرة تقع غرب جورجيا، ثم انتقل إلى روسيا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي حيث برع بمهارة في الاستحواذ على شركات متعثرة وتحقيق أرباح ضخمة عند إعادة بيعها، لكن الثروة الحقيقية لإيفانيشفيلي تشكلت خلال التسعينيات عندما طرحت جورجيا أصولاً قيّمة للبيع بأسعار زهيدة.
قام إيفانيشفيلي بتأسيس شركة “روسيكسي كريديت” Rossiyksy Kredit وبدأ الاستثمار في مجالات عدة، بما في ذلك الصيدليات الروسية والعقارات والفنادق، إضافة إلى شراء حصص في شركات الطاقة الرئيسة مثل “غازبروم”، وشأنه شأن عدد من الأوليغارشيين، كان له دور في دعم حملة إعادة انتخاب بوريس يلتسين للرئاسة عام 1996.
وعند عودته لوطنه حظي إيفانيشفيلي بشعبية كبيرة بين الجورجيين العاديين الذين أعجبوا بطريقة نجاحه في تحقيق الثروة على رغم جذوره المتواضعة ونشأته الفقيرة، فقاد حزبه إلى انتصار ساحق في انتخابات عام 2012، وعلى رغم أنه تولى منصب رئيس الوزراء مدة عام واحد فقط فإنه ظل شخصية بارزة ومؤثرة في الساحة السياسة الجورجية منذ ذلك الحين.
في نهاية الأسبوع المقبل (في الـ 26 من الشهر الجاري)، تستعد جورجيا لخوض انتخابات تاريخية مهمة، وكالعادة لجأ إيفانيشفيلي إلى استخدام لغة استفزازية زادت من حدة التوتر في البلاد، فقد أعلن خلال جولة خاطفة قام بها للمدن التاريخية أن “هذه الانتخابات يجب أن تكون بمثابة ’محاكمات نورنبيرغ‘ [التي دين فيها كبار النازيين] لـ ’الحركة الوطنية المتحدة‘ [المعارضة]”.
وبعد إثارة هذه المقارنة مع النازيين اتهم “الحركة الوطنية المتحدة” بالخيانة، وأكد أن جميع أحزاب المعارضة ستحظر إذا ما فاز حزبه بالانتخابات، واصفاً إياها بأنها “عدوة للدولة”، ورأى رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه أن “الخطوة المنطقية التالية يجب أن تتمثل في إبطال التفويض البرلماني لأنه لا يمكن السماح لأعضاء منظمة تعتبر إجرامية بالاحتفاظ بمكانتهم في البرلمان”، على حد تعبيره.
الكراهية الشديدة التي يكنها بيدزينا إيفانيشفيلي للمعارضة الجورجية أدت إلى قيامه بسلوكيات غريبة وغير عقلانية، فقد بدا مهووساً على نحو غير عادي بالأشجار والحيوانات، ولا سيما الزرافات والكنغر، كما أنه يحتفظ بحوض لأسماك القرش داخل قلعته.
تبدو مقارنة إيفانيشفيلي بأشرار أفلام جيمس بوند أمراً لا مفر منه، إلا أنه كما بوتين يتمتع بشغف خاص بالظواهر الخارقة للطبيعة ويميل إلى تصديق الخرافات، فعندما يبست في وقت سابق من هذا العام أشجار الباوباب التي يملكها، كان انزعاجه شديداً إلى درجة أنه أمر قيادات حزبه بإلقاء اللوم في ذلك على خصومه السياسيين، وزعم أن موت تلك الأشجار كان نذير شؤم لا يمكن أن يُعزى إلا إلى تعليقات أدلى بها المعارضون.
لكن بالنسبة إلى الغرب فإن الانتخابات المقبلة تشكل لحظة مفصلية، وفي محاولة من الولايات المتحدة لمنع جورجيا من الانزلاق إلى قبضة روسيا تسعى إلى فرض عقوبات على إيفانيشفيلي بسبب علاقاته الوثيقة على نحو متزايد مع الكرملين.
في الواقع يعكس خطاب هذا الرجل تشابهاً مثيراً للقلق مع خطاب فلاديمير بوتين، إذ يصف “الحركة الوطنية الموحدة” بأنها “حزب الحرب العالمي” بسبب دعمها أوكرانيا، وفي الوقت نفسه تزعم وكالات الاستخبارات الروسية أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي آي) وجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (أم أي 6) يتآمران لثورة في جورجيا، مما يثير مخاوف الغرب في شأن غزو روسي محتمل للبلاد. وخلال الشهر الماضي أشار نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي أندريه كليموف إلى أن الكرملين قد يرسل قوات روسية إلى جورجيا إذا ما طلبت حكومتها مثل هذه المساعدة، لمنع حدوث ثورة.
إشارة أخيراً إلى أنه مع اقتراب موعد الانتخابات الجورجية السبت المقبل فإن أجواءها تذكر بالوضع الذي كان سائداً في أوكرانيا عام 2014، عندما أكد فلاديمير بوتين أن المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية كانوا جزءاً من انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة، مما أدى إلى نشر قوات روسية في شبه جزيرة القرم و شرق أوكرانيا، وكانت نتائج ذلك التدخل واضحة ومعروفة.