أبعدت وزارة الداخلية التركية قبل أيام ثلاثة مسؤولين كبار في مديرية الأمن بالعاصمة أنقرة عن وظائفهم، في إطار تحقيق تم فتحه بحقهم على خلفية الاتهامات الموجهة إليهم من قبل زعيم شبكة إجرامية هارب إلى خارج البلاد. وبدأت القضية تكبر مع التوصل إلى معلومات جديدة، لتكشف عن مؤامرة تستهدف حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية المتحالف معه.
القضية تفجرت بعد أن قال المواطن التركي الهارب الذي يحاكم بتهمة الانتماء إلى شبكة إجرامية، إن مدراء أمن أجبروه على أن يكون “شاهدا يخفي هويته” في التحقيق المتعلق بتلك الشبكة، مضيفا أن هؤلاء المدراء هددوه بأنه سيُتهم بالوقوف وراء كافة جرائم القتل التي ارتكبتها الشبكة، في حال رفض أن يكون شاهدا في التحقيق، كما ذكر أنهم طلبوا منه إدراج أسماء بعض الأشخاص والأحزاب إلى اعترافاته. وإضافة إلى ذلك، نشر الرجل تسجيلات صوتية للمحادثات التي جرت بينه وبين أحد المسؤولين الأمنيين.
زعيم الشبكة الإجرامية الهارب إلى خارج البلاد اتهم مدراء الأمن بأنهم طلبوا منه أن يذكر ضمن اعترافاته أسماء الوزراء السابقين عبد الحميد غول، وبكير بوزداغ، وسليمان صويلو، ووزير الصحة فخر الدين كوجا، والنائب عن حزب العدالة والتنمية مجاهد آرسلان، ومدير مكتب رئيس الجمهورية حسن دوغان، بالإضافة إلى حزب الحركة القومية، من أجل إظهارهم وكأنهم مرتبطون بتلك الشبكة وأعمالها الإجرامية.
الاتهامات الموجهة إلى المسؤولين الأمنيين الذين تم إبعادهم عن مناصبهم من أجل سلامة التحقيق، أعادت إلى الأذهان الأحداث التي جرت في 17 و25 كانون الأول/ ديسمبر 2013. وكانت مجموعة من المدعين العامين والمسؤولين الأمنيين المرتبطين بتنظيم فتح الله غولن، قامت آنذاك باختلاق قضايا فساد وعمليات تنصت غير مشروعة من أجل اعتقال مقربين من رئيس الجمهورية التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كان آنذاك رئيس الوزراء. وكان على رأس المستهدفين حينها رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، الذي يتولى الآن حقيبة وزارة الخارجية.
الادعاء العام في أنقرة فتح تحقيقا بحق المدراء الثلاثة، كما تم تفتيش بيوتهم، بحثا عن أدلة جديدة قد تؤدي إلى كشف ملابسات القضية. وصرح رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، في كلمته أمام نواب حزبه، أن هناك مؤامرة تستهدف تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، مضيفا أنهم لن يستسلموا لمحاولة انقلاب عن طريق الأمن والقضاء، على غرار تلك المحاولة التي حدثت في 17 و25 كانون الأول/ ديسمبر 2013.
الكاتب التركي نديم شنر، ذكر في مقال له بصحيفة حرِّييت، أن مجموعة متغلغلة في الأمن التركي مرتبطة بجماعة “أوكويوجولار” النورسية، سعت إلى تحريف تحقيق بحق شبكة إجرامية عن مساره وتحويله إلى مؤامرة ضد حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، ليمهدوا الطريق إلى إطلاق تحقيق قضائي يستهدف السياسيين، على غرار تحقيق “الأيادي البيضاء” الذي شهدته إيطاليا في تسعينات القرن الماضي.
لا يمكن التنبؤ حاليا بأي نتيجة ستسفر عنها التحقيقات في هذه القضية، إلا أن ما تم الكشف عنه حتى الآن يشير إلى خطورة خلايا الجماعات المسيسة التي تسعى إلى هندسة الساحة السياسية وفرض الوصاية على الإرادة الشعبية من خلال رجالها المتغلغلين في أجهزة الدولة، حين تتضارب تعليمات قادة تلك الجماعات مع قوانين البلاد وأمنها ومصالحها، كما أن بعض هؤلاء قد يكونوا مرتبطين بالخارج، إلا أنه ليس من السهل إيجاد حل لإشكالية تقديم الانتماء إلى الجماعات، سواء كانت دينية أو اجتماعية، على الالتزام بالمسؤولية التي تحملها المناصب والوظائف تجاه الوطن والمواطنين.
القضية تؤكد أيضا أن محاولات الانقلاب في تركيا لم تنتهِ وخطرها لم يزُل بعد، وعلى الرغم من العملية الواسعة التي تمت لتطهير الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات والقضاء من خلايا تنظيم الكيان الموازي الإرهابي الذي قام بمحاولة الانقلاب في صيف 2016، يبدو أنه ما زالت هناك خلايا نائمة تابعة لجماعة غولن أو جماعات أخرى تسير في ذات الاتجاه وتستخدم أساليب مشابهة، يمكن أن تجدد المحاولات. وإضافة إلى تلك الخلايا،
هناك جهود حثيثة تبذلها جماعة غولن للتغلغل من جديد في أجهزة الدولة. وأعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، عن اعتقال 544 مشتبها بهم في 62 محافظة خلال العمليات التي استهدفت جهود الكيان الموازي الهادفة إلى زرع عناصره في مناصب مختلفة في إطار خطة وضعها قادة التنظيم.
رئيس الجمهورية التركي دعا ليلة الأربعاء وزير العدل ورئيس إلاستخبارات إلى القصر الرئاسي للحصول على المعلومات الأخيرة المتعلقة بالقضية. وإن صحت الاتهامات الموجهة إلى مدراء الأمن الثلاثة، لا يمكن القول بأن المؤامرة محصورة فقط بما قام به هؤلاء، بل لا بد من مشاركة آخرين في أجهزة الأمن والقضاء وحتى الإعلام لضمان نجاح مثل هذه المحاولات.
ويبدو أن الواقفين وراء المحاولة رأوا أن الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية لصالحهم، لاستهداف حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، في ظل الفوز الذي حققته المعارضة في الانتخابات المحلية الأخيرة، بالإضافة إلى التوتر الذي تشهده العلاقات التركية الإسرائيلية على خلفية الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحركة حماس.