هل تريد أميركا فعليا دولة فلسطينية؟
كانت الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة في الـ14 من مايو (أيار) 1948، وهناك من يجادل اليوم في قانونية ذلك الاعتراف بدولة لم تحدد حدودها حتى الآن، متخطية قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين إلى دولتين بين اليهود والعرب.
هل تريد الولايات المتحدة الأميركية فعلاً قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة؟ أم أن العودة لتبني شعار الدولة فرضته ظروف موقتة وطارئة بسبب قساوة المعركة التي اندلعت منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 إثر هجوم “حماس” على المستوطنات المحيطة بقطاع غزة والرد الإسرائيلي المدمر الذي أسفر عن مصرع وإصابة عشرات الألوف من الفلسطينيين وتدمير الجزء الأكبر من منازلهم في المدن والمخيمات التي يضمها القطاع؟
كان “الفيتو” الأميركي في مجلس الأمن قبل نحو 10 أيام ضد مشروع قرار يوصي الجمعية العامة بقبول دولة فلسطين عضواً في الأمم المتحدة اختباراً لجدية التصريحات التي أدلى بها الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن طوال الأشهر التي تلت احتدام المعارك، والتي عرضت كأساس لتسوية مستقبلية، على الدول العربية المعنية والفاعلة، وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وقد جاء هذا “الفيتو” ليفشل موافقة 12 دولة عضواً في مجلس الأمن على القرار، بينها خصوصاً فرنسا، العضو الدائم التي صوتت لمصلحته، فيما لوحظ امتناع بريطانيا التي تبنت أخيراً حل الدولتين، عن التصويت.
بررت الولايات المتحدة رفضها القرار بالقول على لسان نائب سفيرها روبرت وود أن “(الفيتو) لا يعكس معارضة للدولة الفلسطينية، لكنه اعتراف بأنه لا يمكن أن تنشأ دولة فلسطينية إلا عبر مفاوضات مباشرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني”.
لا يختلف هذا التبرير عن المنطق الأميركي الذي كان سائداً طوال أكثر من عقدين، فالولايات المتحدة التي رعت اتفاقات أوسلو الموقعة بهدف الوصول أخيراً إلى سلطة وطنية مستقلة، تخلت عن التزاماتها ووقفت إلى جانب إسرائيل في سعيها إلى إفراغ مشروع السلطة من مضمونه، وصولاً إلى رفض فكرة الدولة المستقلة من الأساس، وهو الأمر الذي تكرره حكومة نتنياهو وفصائلها المتطرفة ويلتقي موضوعياً مع مشروع “حماس” ورعاتها الإيرانيين.
التزمت الإدارات الأميركية دائماً مبدأ عدم الموافقة على شيء ترفضه إسرائيل، وأخرجت موقفها إلى العلن بصيغ قديمة – جديدة، فبعد التصويت في مجلس الأمن اعتبر بلينكن أن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة يجب أن تتم بموافقة إسرائيل، وأوضح “نحن مستمرون في دعم الدولة الفلسطينية بضمان أمن إسرائيل”.
كانت الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة في الـ14 من مايو (أيار) 1948، وهناك من يجادل اليوم في قانونية ذلك الاعتراف بدولة لم تحدد حدودها حتى الآن، متخطية قرار الجمعية العامة بتقسيم فلسطين إلى دولتين بين اليهود والعرب.
في الرفض الأميركي الأخير لقرار رمزي في معناه، ولكن يستجيب لدروس 75 سنة من الصراع، استمرار لتبني الموقف الإسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية بأي صورة من الصور، ولن تفيد التبريرات في التخفيف من المغزى.
طوال سنوات ما بعد أوسلو كرست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة نهج حفر الأسس لمنع قيام مثل هذه الدولة عبر سياسة قضم الأراضي وتهجير سكانها وتوسيع المستوطنات والإتيان بعشرات ألوف المستوطنين إلى المناطق المفترض أن تشكل الدولة الفلسطينية الموعودة.
في عهد إدارة الرئيس دونالد ترمب جعلت الولايات المتحدة من القدس عاصمة لإسرائيل واعترفت بضمها الجولان المحتلة، ولم تتخذ الإدارات المتعاقبة أي تدابير ذات معنى لمنع الاستيطان والضم والإلحاق، إلى حد يجعل “التفاوض” اللاحق الذي تقترحه واشنطن بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتكرر الكلام في شأنه في كل مناسبة، غير ذي جدوى، بل تبين أن بدائل مثل معركة غزة الدموية ستفرض نفسها وحيدة على جدول الأعمال.