نظّمت مسيرة الأعلام في القدس أول مرة عام 1968، على يد الحاخام يهودا حزان من المدرسة الدينية المعروفة باسم ميركاز هراف – مركز الحاخام، وتحولت إلى تقليد سنوي.
وتنظّم المسيرة في الخامس من يونيو من كل عام، في ما يعرف بـ”يوم القدس” الذي تحيي فيه إسرائيل، بحسب التقويم العبري، ذكرى احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967 والذي تسميه يوم توحيد القدس وإحلال السيادة الإسرائيلية واليهودية على المدينة والأماكن الدينية اليهودية فيها.
قد لا يتوقّف المتابع كثيرا عند تنظيم المسيرة لأنها أصبحت بمثابة تقليد سنوي عند الإسرائيليين، ولكن ما كان لافتا لهذا العام في هذه المسيرة تحديدا التي سارت في شوارع القدس في الخامس من يونيو الماضي، وصول عشرات الآلاف من المستوطنين وأنصار المعسكر اليمين المتطرف في إسرائيل إلى ساحة باب العامود في القدس، حيث قاموا بالضرب والمضايقات على صحافيين وفلسطينيين، وأدّوا رقصات استفزازية بالقرب من المدينة القديمة.
لقد سلّطت مسيرة الأعلام الضوء على الحالة التي وصلت إليها الدولة العبرية في فلسطين من الوحشية، والمغالاة في ردة فعل اليهود المتطرف تجاه كل من تواجد أمامهم إن كان فلسطينيا أم صحافيا يغطي الحدث، حيث أظهر التصوير الموثق المتظاهرين العنيفين في أثناء مسيرة التفوق اليهودي في شوارع القدس، الأمر الذي أوضح مدى الوحشية التي بات يعيشها المستوطن، والتي على ما يبدو تحولت وتطورت عبر مراحل ثلاث، إذ سيطرت نشوة القومية الصاعدة في الانتصار في المرحلة الأولى تحديدا بعد حرب النكسة العربية 1967، وبعدها انتقلت إلى مرحلة القومجية المتطرفة الرفضية في المرحلة الثانية، لتصبح اليوم بعد السابع من أكتوبر في مرحلة الوحشية الممنهجة، التي يجد فيها الصحافي اليهودي والمفكر يهوشع ليبوفيتش بأنّها المرحلة التي ستشهد على نهاية الصهيونية.
لاحظت صحيفة هآرتس في عددها الصادر الجمعة السابع من يونيو الماضي أن “الروح العامة المسيطرة على المستوطنين المشاركين كانت روح الانتقام… الرمز البارز على قمصان المشاركين كان القبضة الكاهانية.. الهتاف الشعبي عبارة عن أغنية انتقامية بشكل خاص، إلى جانب شعارات الموت للعرب ولتحترق قريتهم”.
الوحشية لم تعد محظورة بالهوامش أو المستوطنات أو البؤر الاستيطانية بل تسلّلت إلى صفوف الجيش الإسرائيلي والكنيست والحكومة، ووزراء ونواب، منهم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزيرة المواصلات ميري ريغف وإيتمار بن غفير وغيرهم.
ليس بجديد توقّع انهيار الدولة الإسرائيلية لاسيما بعدما كتب رئيس وزرائها الأسبق إيهود باراك عن “العقد الثامن”، الذي يرجع كفكرة إلى رواية يتّفق عليها المؤرخون الذين يتناولون تاريخ الوجود اليهودي السياسي في فلسطين، وهي أن اليهود عموما أقاموا لأنفسهم في فلسطين على مدار التاريخ القديم كيانين سياسيين مستقلّين، وكلا الكيانين تهاوى وآل إلى السقوط في العقد الثامن من عمر الدولة.
أُعيد طرح فكرة سقوط إسرائيل مع وصول التطرف اليميني إلى السلطة، والذي أخذ إسرائيل إلى حرب إجرام بحقّ الفلسطينيين، وإلى المزيد من الانعزالية على الصعيد الدولي، مع ارتفاع عدد الدول التي اعترفت بدولة فلسطين.
يعيش الشارع الإسرائيلي على المستويين الشعبي والسياسي تخبّطا لم تشهد له إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948. فالمظاهرات التي لم تزل مستمرة، والمطالبة باستقالة حكومة بنيامين نتنياهو، تؤرق إسرائيل، وتهدّد جديا باضطرابات داخلية، توقّع البعض أن تكون أشبه بحرب أهلية. أما على الصعيد السياسي، فقد شكّل انسحاب بعض أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي الأحد التاسع من يونيو الماضي من حكومة الطوارئ، أزمة حكم جديدة أمام نتنياهو.
أزمة جديدة تعاني منها الحكومة الإسرائيلية وهي تجنيد الحريديم بالجيش الإسرائيلي، وتعكس مدى خطورة التطرف الديني على استمرارية الدولة العبرية. هذه المسألة أحدثت انقساما عموديا داخل إسرائيل بين معارض ومؤيد. ففي التاسع من مارس الماضي، نقلت القناة 12 الإسرائيلية تصريحات حاخام “الحريديم الأكبر يتسحاق يوسف”، التي أعادت اندلاع أزمة تجنيد اليهود الحريديم لتنفجر بوجه الرأي العام الإسرائيلي، بعد أن قال “إذا أجبرونا على الالتحاق بالجيش، سنسافر جميعا إلى خارج البلاد، نشتري تذاكر ونرحل”.
تصريح كهذا يمرّ مرور الكرام عند العلمانيين اليهود، الذين لا يفهمون أنه بدون المدارس الدينية لم يكن الجيش لينجح. هنا تكمن المعضلة الحقيقية لبقاء الكيان أو زواله، إذ إن اليمين المتطرف يعتبر أنه أساس بقاء الكيان من خلال ربط التلاحم الديني بين الأجيال الناشئة وأهل التوراة الذين يعتبرون أن أهمية التوجه الديني عند اليهود يبقى هو الحافز الرئيسي لإبقاء اليهود في أرض فلسطين، على اعتبارها أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب.
أهمية وجود “أهل التوراة” لا تقف عند حدود تمتين أواصر حضور يهود إسرائيل في دولتهم انطلاقا من الحافز الديني، مقيمين منهم ومغتربين، بل أيضا هناك العلاقة المتينة التي تربط هذه الجماعة بالدوافع الأميركية الحاضرة دائمًا للدفاع عن بقاء إسرائيل. فجماعات البروتستانت الإنجيليين تدفع إلى التعجيل بسيطرة إسرائيل الكاملة على كل أرض فلسطين المقدسة. فهذا ما عبّر عنه وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن في زيارته لإسرائيل بعد السابع من أكتوبر على اعتبار أن “الرسالة التي يحملها في زيارته هي أن الولايات المتحدة دائمًا إلى جانب إسرائيل”.
إن سيطرة المتطرفين اليهود على السلطة تعتبر سيفا ذا حدّين، فإنها حاجة ضرورية لاستمرار الحضور اليهودي في أرض فلسطين بحوافز دينية، كما إنها ركيزة أساسية لدعم واشنطن المطلق للكيان. لكن من وجهة نظر مختلفة.