هل تتوفر شروط قيام سلطة فاشية بالعراق؟
على المؤسسة الدينية أن تستفيد من التجربة الإسبانية أثناء الحرب الأهلية وتبتعد عن التدخل في الشؤون السياسية بالبلاد احتراما للدين ولرجال الدين أنفسهم
الإسلام السياسي بالعراق عبارة عن منظومة متكاملة من مرجعيات وأحزاب سياسية وتنظيمات شبه عسكرية رجعية الطابع والتوجه، مهمّتها الأساسية قمع كل أشكال الحريات والتنظيمات النقابية والنسوية والشبابية والطلابيّة المناوئة لها، والتضييق الشديد على الأحزاب السياسية من غير المشتركة في نظام المحاصصة الطائفية القومية كمرحلة أولى. وبتوظيفها للمقدس في جميع مناحي الحياة بالبلاد، فأنها قامت وتقوم بتوسيع قاعدتها الاجتماعية عن طريق إرهابها وخطابها الديني وهيمنتها على اقتصاد البلاد، وهي تسعى وهذا ما يجب على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الانتباه له والعمل على مقاومته، الى إشاعة اليأس بين الجماهير من خلال خطاب ديماغوجي موجّه وتخديرها بخطاب ديني ماضوي رجعي متخلّف، لتوهمها من أنّ لا أمل في تغيير المعادلة السياسية في البلاد التي تسير نحو هيمنة فكر إسلامي فاشي، سيترجم لاحقا الى نظام سياسي فاشي من خلال التحكّم بقوت الناس وقوّة السلاح والمال والأعلام والفتاوى الدينية وشراء السلطة القضائية. أنّ القوى السياسية المؤمنة بالديموقراطية الحقيقية وليس المحاصصاتية كالتي تقود بلادنا اليوم، مدعوة وبقوة للوقوف بوجه التوجه الفاشي للقوى الإسلامية اليوم من خلال توعية الجماهير بخطورة الفاشية على مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة والوطن، لأن مقاومة هذه القوى أي الفاشيّة الدينية مستقبلا وهي تمتلك كل مفاتيح البلاد سيكون أمرا معقّدا وصعبا ومكلفا جدا.
ونحن نتناول أوضاع البلاد المعقّدة والدقيقة من خلال هيمنة الإسلام السياسي على مقاليد السلطة، علينا أن نجيب على سؤال سيترجم مستقبلا الى حقيقة في حالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه اليوم، وهو أن كانت هناك امكانية حقيقية لقيام نظام إسلامي فاشي النزعة، خصوصا وأنّ الأجواء السياسية والآيديولوجية لنجاح الفاشية الدينية لها ركائزها القوية في مجتمع مؤدلج طائفيا ويعاني من تخندق طائفي وبطالة وفقر وأميّة وانعدام للوعي بشكل مخيف، كما العراق؟
من خلال المهام التي تتبناها القوى الدينية بجميع مؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، نرى أنها متفقة بالكامل تقريبا على قضم الحريات بشكل ممنهج ومدروس، وقمع النقابات والاتحادات المهنية من خلال قوّة “القانون” الذي تسنّه بنفسها وعلى مقاساتها، أو من خلال نقاباتها واتحاداتها المهنية الصفراء المختلفة، وهذه التجربة كانت تجربة مأساوية مرّ بها شعبنا عهد النظام البعثي الفاشي، الذي صبغ بالقوّة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بآيديولوجيته التي دمرّت بلادنا وشعبنا. والقوى الدينية اليوم تصبغ كما البعث الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بأيديولوجيتها الدينية الطائفية، لكنّها تتفوق على البعث كونها تصبغ كل شيء بالمقدّس، ولتطرح مرجعياتها الدينية والسياسية والميليشياوية كرجال كاملي القداسة وعلى المجتمع وخصوصا الشيعي تأليههم إن أمكن، ولدينا بالفعل اليوم رجال دين عبروا مرحلة القداسة الى مرحلة التأليه، وهذا التأليه هو القنبلة الموقوتة التي ستنفجر يوما نتيجة تعدد مراكز القوى والتناقضات السياسية التي تعيشها البلاد وقلّة وعي الجماهير، وحينها سيظهر الوجه الفاشي الحقيقي المدمّر للإسلام السياسي.
لا تظهر الفاشية كنظام سياسي بالبلدان المختلفة في ظل ظروف متشابهة ولا تصل الى السلطة المطلقة بشكل مفاجئ، فهي تناور وفقا لظروفها الذاتية والسياسية القائمة وتلك التي تمر بها مجتمعاتها، وعليه فأنّها تختلف من بلد لآخر. فالفاشيّة الألمانية الحديثة أي دولة الفوهرر (القائد) وريثة الفرسان البروسيين الذين احتكروا المناصب العسكرية منذ القرن السابع عشر وحتى انهيار الرايخ الثالث نهاية الحرب العالمية الثانية، هي امتداد للمؤسسة العسكرية الالمانية التقليدية، وهي تختلف عن الفاشية الإيطالية التي انبثقت بعد مسيرة ذوي القمصان السوداء من أعضاء الحزب الوطني الفاشي بزعامة موسوليني نحو روما والذي عيّنه ملك البلاد وقتها فيكتور ايمانويل الثالث، بعد خوف كبار الرأسماليين والاقطاع من نشاط الحزب الشيوعي الايطالي وثقله بين صفوف الجماهير. أمّا تجربة الفاشية الإسبانية بزعامة فرانكو فهي الأقرب لواقعنا العراقي من الفاشيتين الألمانية والإيطالية. ففي إسبانيا كانت العلاقة وثيقة بين المؤسسة الدينية والنظام القائم حينها، وكانا يعملان من خلال تلك العلاقة على حماية النظام الاجتماعي القائم اللذين يمثلانه ومصالحهما من خطر قوى متضررة بينها عمال وفلاحين ومثقفين يساريين وليبراليين أرادت الحد من تدخل رجال الدين وفرض سلطتهم على الدولة والمجتمع. وحول الحرب الأهلية في إسبانيا ودور الدين وتدخل رجالاته في الشأن السياسي يقول المؤرخ الإسباني خوليان كازانوفا في الفصل الثاني من كتابه “الحرب الأهلية الإسبانية” ويقع الفصل تحت عنوان “الحرب المقدسة والكراهية المعادية لرجال الدين” من أنّ الحرب الأهلية الإسبانية “كانت حربًا عادلة ومقدسة في أحد المعسكرين، وغضبًا عارمًا لا يرحم انفلت من عقاله ضد رجال الدين في المعسكر الآخر، الأمر الذي خلّف ندوبًا كبيرة في ذاكرة الشعب الإسباني”.
هل هناك أمكانية لقيام نظام ديني فاشي بالعراق؟
الكثير من الآراء تقول بصعوبة، بل وباستحالة قيام أنظمة فاشية في بلدان غير متطورة اقتصاديا وصناعيا. وتنطلق هذه الآراء من أنّ الفاشية كظاهرة نشأت في أوروبا في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجة التطور الرأسمالي لتلك المجتمعات. الا أننا نلاحظ أنّ الفاشية هناك لم تظهر في بلدان على نفس الدرجة من التطور الرأسمالي. فإيطاليا لم تكن على نفس الدرجة من التطور مقارنة بألمانيا، أمّا اسبانيا والتي انتصرت فيها الفاشية هي الأخرى فأنها كانت ولليوم من الاقتصاديات الضعيفة مقارنة بكبار القارّة. فإذا كان شكل التطور الرأسمالي لا يمثل شرطا أساسيا لنشوء الظواهر الفاشية في المجتمعات والدول المختلفة كنشوئها وقيادتها لبلدانها كما حدث في العديد من بلدان أميركا اللاتينية والجنوبية، فأنّ امكانية قيامها في العراق الطائفي وعلى غرار فاشية تلك البلدان ومنها فاشية الأحزاب اللبنانية أثناء الحرب الطائفية فيها وهي القريبة منا جغرافيا ودينيا وثقافيا سيظل قائما، خصوصا وأنّ هناك عوامل تساعد على مضي الإسلام السياسي في مشروعه الفاشي منها:
1 – استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعجز الإسلام السياسي كونه على رأس السلطة التنفيذية والأكثر تمثيلا في البرلمان ومهيمنا على القوّة القضائية، عن أيجاد حلول تحول دون تفاقمها ممّا يؤثر على حياة الناس ومستقبل البلاد.
2 – قدرة الأحزاب الإسلامية على تعبئة الشارع طائفيا، ودور تنظيماتها المسلّحة في تهديد السلم الأهلي متى ما رأت ذلك ضرورة لفرض سياستها واستمرارها في السلطة.
3 – قلّة وبالأحرى انهيار كبير في مستوى وعي الجماهير، والتي تستغلّها قوى الإسلام السياسي في ترسيخ الطائفية والعشائرية والقبلية والتي هي من تصبغ حياة العراقيين اليوم.
4 – وجود رموز دينية سياسية تُقدّس وتُعبد كآلهة وقادرة على إشعال حرب طائفية أو تبني مشروع فاشي للسلطة متى ما أرادت، وهي قادرة فعلا على تحشيد وإنزال مئات الآلاف من المؤمنين بهم الى الشوارع.
5 – تسلّح القوى الإسلامية بفتاوى دينية، أي منح نفسها صفة القداسة والعصمة في تعاملها مع من يخالفها الرأي.
6 – ارتباطها الوثيق بعواصم إقليمية تحوّلت أنظمتها بشكل ممنهج الى مشروع سلطة فاشي يمنع قيام أحزاب وتنظيمات سياسية وتشكيل النقابات والاتحادات غير الإسلامية تلك التي ترتبط بأجهزة السلطة وتنفّذ سياساتها، ما يدفع الإسلام السياسي بالعراق وهي التي لها ولاء تام لتلك العواصم لاستنساخ تجربتها وتطبيقها في البلاد.
7 – استخدامها الغطاء الديني لأثارة الجماهير وتأجيج الخطاب الطائفي لتغييب وعيها أكثر ممّا هي عليه اليوم، وزجّها في تشنّجات ومواجهات طائفية ستقود الى صراع حتمي ومن ثم حرب طائفية كالتي عاش شعبنا ويلاتها سابقا لاستكمال مشروعها الفاشي، أو الدفاع عن سلطتها من الانهيار كما جرى إبّان انتفاضة تشرين/ أكتوبر عام 2019.
8 – تبنيها للإرهاب السياسي والميليشاوي والديني الطائفي لمصادرة الحريات والتضييق على الثقافة التقدميّة باعتبارها الخطر الاكبر الذي يهدد مشروعها الثقافي الفاشي المتخلّف، فهذه القوى الموغلة في الرجعية هي كما وزير الدعاية الألماني غوبلز تراهم يضعون أصابعهم على زناد مسدساتهم كلمّا سمعوا كلمة ثقافة.
9 – احتكار موارد الدولة المالية والتصرّف بها بما يخدم مشاريعها الطائفية والعشائرية، من خلال توزيع ثروات البلاد بين أجنحتها السياسية وشبه العسكرية المختلفة حسب قوّتها في الشارع وثقلها في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
أننا اليوم بالعراق نعاني من أزمة اجتماعية كبيرة وخطرة، وهذه الأزمة التي قام الإسلام السياسي نفسه بتغذيتها بعد أن ورثناها من النظام البعثي، نراه يعمل على توسعتها لتحتل الصدارة في حياة شعبنا وبلدنا. على القوى السياسية المؤمنة بالديموقراطية الحقيقية ولمواجهة هذا الخطر الذي يهدد حياة شعبنا ووطننا، أن تعمل على تعريف الفاشية وخطرها على البلاد للجماهير المكتوية بنار الفقر والبطالة وفساد السلطة، باستخدامها لكل الوسائل والأساليب السلمية من خلال التظاهرات والاعتصامات والمنابر الإعلامية، وزجّ منظمات المجتمع المدني في هذا النضال الوطني. إننا اليوم بحاجة حقيقية لبناء حركة شعبية واسعة بشعارات وطنية مناهضة للطائفية السياسية والعشائرية والقبلية وهي الركائز التي يعتمد عليها الإسلام السياسي لتمرير مشروعه الفاشي، حركة شعبية تدعو وتعمل على الاسراع في تغيير شكل نظام الحكم المحاصصاتي القائم اليوم.
على المؤسسة الدينية أن تستفيد من التجربة الإسبانية أثناء الحرب الأهلية وتبتعد عن التدخل في الشؤون السياسية بالبلاد احتراما للدين ولرجال الدين أنفسهم، خصوصا وأن الدين اليوم ولفساد أحزاب الإسلام السياسي والخراب الذي يغطي مساحات كبيرة من حياة الناس أصبح محل تشكيك وفي مرمى سهام النقد ومنه النقد الجارح وهذا ما لا نريده للدين لقدسيته عند ملايين المؤمنين به.
إنّ تجارب الشعوب التي تداخلت فيها السلطتين السياسية والدينية وسببت مآسي تاريخية فيها، يجب أن تكون تحت أنظار المرجعيات الدينية بالعراق كونها مسؤولة أمام الله والشعب والتاريخ على ديمومة الدين نفسه وحياة الناس وبلدهم. إنّ خطر قيام الفاشية الدينية بالعراق لا تأتي من كونها مشروع فاشي فقط، بل تأتي وكما يستعرض الكاتب التنويري حامد عبدالصمد في كتابه “الفاشية الإسلامية” من أنّ خطرها الأكبر يأتي كونها “تبدو كأنها دين سياسي، يعتقد أتباعها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ويقف قائدهم المعصوم على قمة هرم السلطة، متسلحا بمهمة مقدسة لتوحيد الأمة وسحق خصومها، تشترك الإسلاموية الحديثة في كل هذه الصفات، ومعارضة كل ما هو حداثي، ومحاربة قيم التنوير وإعلاء فكرة التضحية بالنفس حتى الموت في سبيل الأفكار الفاشية.” وعراقيا يعني الموت والدمار في سبيل إعلاء قيم الطائفة ومن بعدها العشيرة، ولدينا أكثر من قائد “معصوم” معاد للحداثة وقيم التنوير، وهدفه الأسمى هو العودة بالعراق الى السنوات الأولى لبدء الإسلام.
أربعة عشر الف فاشي من أصحاب القمصان السود قادهم موسوليني سنة 1922 من ميلانو نحو روما بالقطارات والحافلات، رافعا شعار “إما أن تُعطى لنا الحكومة أو سنأخذ حقنا بالمسير إلى روما”. وما أشبه بغداد اليوم بروما البارحة، وهناك أمكانية حقيقية للبعض وعلى غرار موسوليني في قيادة مئات الآلاف من البشر لتحقيق مشروعه الديني السياسي، أو من قبل ساسة ينظرون الى السلطة من خلال الديموقراطية الكسيحة رافعين شعار “ما ننطيها” الذي ينسف كل مبادئ الديموقراطية وأسسها ليمضي قدما في مشروعه الفاشي.
أرادة الشعب هي ليست الوسيلة للحكم وإنما الوسيلة هي القوّة وهي التي تفرض القانون… موسوليني.